كانت بيروت يومذاك تشبه امرأة طالعة من سنوات باريس المجنونة بكل فورانها ونزقها. عاصمة تعيش غليانها وتحتدم فيها المعارك الفكرية والثقافية والسياسية. مد عروبي، ووعي يساري وتباشير ولادة المقاومة الفلسطينيّة، تيارات مختلفة تتلاطم في مقاهي ساحة البرج. المسارح تخطّ نهضتها، مجلة «شعر» تحتضن مشروع الحداثة مع أدونيس وشوقي أبي شقرا وأنسي الحاج ومحمد الماغوط ويوسف الخال وخليل حاوي... استديوهات «الأرز» ثم «بعلبك» تشهد حركة صناعة سينمائيّة لم تعهدها العاصمة.
بعض السينمائيين والمنتجين هجّوا إليها من هوليوود الشرق، طلباً لحريّة لم تعد تؤمنها لهم يوتوبيا الحكم الناصري، حتّى يوسف شاهين تخاصم مع «صلاح الدين» وجاء إلى بيروت يشتمّ رائحة الحداثة. احتضنت المدينة كل الخوارج والمعارضين وفنّاني الطليعة الثقافيّة من العراق وسوريا وحتّى المغرب، فضلاً عن بعض الإيطاليين والأتراك... بيروت الكوسموبوليتة، حاضنة المشاريع القوميّة والتقدميّة، تقطف ثمار ازدهار اقتصادي قائم على السياحة والخدمات، تعيش حيواتها الكثيرة قبل أن تنفجر بتناقضاتها. مختبر الحداثة العربية صورة بالأسود والأبيض معلّقة على جدار مشقّق، في بيت تتعايش فيه الخيبة والحنين... صورة مهزوزة يعتريها الـflou الفنّي، ويلفّها غشاء سميك من النوستالجيا يردم المسافة بين الواقع والأسطورة. لعلّ هذا ما دفع «متروبوليس أمبير صوفيل» إلى العودة بنا إلى العصر الذهبي للمدينة من خلال مهرجان «أجمل أيام حياتنا» الذي يستعيد 11 فيلماً لبنانياً أنتجت في الستينيات والسبعينيات. ليس دقيقاً وضع دمغة «أفلام لبنانية» على ما أُنتج في تلك الحقبة كما يذكّر ابراهيم العريس. في كتابه «الصورة الملتبسة»، يرى الناقد اللبناني أنّ تلك المرحلة ــ خصوصاً أوائل الستينيات ــ لم تشهد سينما لبنانية، بل سينما في لبنان، أكان من حيث موضوعاتها البعيدة عن المجتمع، أو من حيث هوية مخرجيها، أو بتأثّر صنّاعها بالتقاليد السينمائية المصرية أو الأميركية.
لكن هذا لا يعني أن الأفلام التي سنشاهدها في «متروبوليس أمبير صوفيل» ابتداء من الأربعاء 13 حزيران (يونيو)، لا تعكس جزءاً مهمّاً من ذاكرة المدينة التي أرادت نفسها حينذاك عاصمة ثقافيّة عربيّة. الأسماء والوجوه (من محمد سلمان إلى هنري بركات، ومن صباح وفريد الأطرش وسميرة توفيق وطروب، إلى إحسان صادق وفريد شوقي ورشدي أباظة واسماعيل ياسين...)، فضلاً عن المواضيع والأساليب الفنيّة (التي مرّ عليها الزمن غالباً، فنيّاً وجماليّاً)، تميّز مرحلة خاصة ما زالت قادرة على ملاقاة الجمهور بقوّة الحنين، لكن أيضاً بقدرتها الايحائيّة، وبقيمتها الوثائقيّة، كمنجم من المراجع والمفاتيح الثقافيّة، وكشاهدة على منعطف أساسي في مسار الشاشة العربيّة، عشيّة بزوغ سينما المؤلّف، وتبلور المشاريع الكبرى التي حملتها مجتمعاتنا.




اختارت «متروبوليس» معلماً أساسياً من تلك الحقبة من خلال أعمال (بالألوان أو بالأسود والأبيض) تغلب عليها اللهجة المصرية، وتندرج في إطار الميلودراما والأعمال البوليسية والجاسوسية والغنائية ذات المواضيع الخفيفة والسطحية والساذجة. ولعل عنوان تلك المرحلة هو محمد سلمان (1925 ـــــ 1997) الذي سنشاهد له أربعة أفلام بما أنّه كان الأكثر غزارة وهي: «أهلا بالحبّ» (1970 ـــ 16 /6 ـــ س: 7:00) و«غيتار الحبّ» (1974 ــ 16/ 6 ــ س: 9:00) و«بدوية في باريس» (1966 ــ 17/ 6 ــ س: 8:00) و«الجاكوار السوداء» (1965 ــــ 20/ 6 ـــ س: 8:00). قبل هذا الفنان الظاهرة، كانت الأفلام اللبنانية تقتصر على مجرد مدونات ريفية تصوّر قيم الريف اللبناني والهجرة ومفاهيم الخير والشرّ باللهجة اللبنانية (كأعمال جورج قاعي، جورج نصر). وقد جاءت بعد مغامرات فردية في الفن السابع كفيلم الايطالي جوردانو بيدوتي «مغامرات إلياس مبروك» (1929)، ثم علي العريس بفيلمه «بياعة الورد» (1942 ــ 1943)، و«كوكب أميرة الصحراء» (1946).
في أوائل الستينيات، أتى سلمان ومعه الوصفة «السحرية» ليرسي تقليداً جديداً. جاء من مصر حيث مثّل في بعض الأفلام وتأثر بتقاليد هوليوود الشرق، وانخرط في المشروع الناصري، فكتب ولحّن أغنيات شهيرة أدّتها زوجته الفنانة نجاح سلام. كان فناناً فطرياً أنجز سلسلة أفلام تأثرت بتقاليد السينما المصرية في الأربعينيات. اعتمد محمد على خلطة أشبه بأفلام المقاولات ارتكزت على النجوم (البدوية سميرة توفيق، ووسيم الشاشة يومها فهد بلان، وصباح)، والمناظر السياحية والحبكة الظريفة والخفيفة التي راوحت بين الاستعراض، والغناء، والميلودراما والأعمال البوليسية والجاسوسية، واعتمدت اللهجة المصرية أو البدوية. أفلامه «التيرسو» حقّقت نجاحاً تجارياً مدوياً حينها. هكذا، رأينا البدوية سميرة توفيق تذهب إلى باريس حيث تصبح نجمة على خلفية مناظر سياحية في فرنسا، ومواقف كوميدية تحصل معها في عاصمة الأنوار، ووصلات استعراضية غنائية. وفي نهاية الفيلم عندما تحاول الانتحار وترمي بنفسها من الصخرة، ستجد «جيغولو» الشاشة رشدي أباظة وقد تلقّفها بيديه، فيغمران بعضهما ثم يلوّحان للمشاهدين. لعلّ هذا المشهد يصلح عنواناً عريضاً لتلك المرحلة التي امتلأت أفلامها بالسذاجة والبراءة وغياب الاحتراف. أما في «أهلا بالحبّ»، فنرى السائس فريد شوقي الذي يحبّ عيش حياة الأكابر، فيستعير البزات من صديقه المكوجي ويقدم نفسه بصفته السيد خوسيه الآتي من البرازيل، ويتعرّف إلى صباح التي تُغرم به، وتنطلق الأحداث بين مواقف كوميدية ووصلات غنائية. هذا ما ينطبق أيضاً على «غيتار الحب» الذي تؤدي بطولته صباح وجورجينا رزق وعمر خورشيد، و«الجاكوار السوداء» البوليسي الذي تؤدي بطولته طروب، وإحسان صادق، وسمير شمص...
في السياق ذاته، تندرج أعمال السوري رضا ميسر الذي درس السينما في أميركا، بعد أن هرب من سوريا الاشتراكية ومصادرة أراضي عائلته في حلب. في تظاهرة «متروبوليس»، سنشاهد له فيلم «العسل المرّ» (1964 ــــ 19/ 6 ــ س: 8:00) المقتبس عن قصة قابيل لسير توماس هنري هول كاين. تشبه تجربته أيضاً مشوار فاروق عجرمة المصري الأميركي الذي جاء إلى لبنان حيث أنجز سلسلة أفلام سنشاهد منها «عصابة النساء» (1970 ـــ 18/ 6 ــ س: 8:00 ـــ بطولة صباح وطروب، واسماعيل ياسين، وفريد شوقي ويوسف وهبي). درس عجرمة السينما في أميركا وقد استقر مؤقتاً في لبنان قبل أن يرحل مجدداً إلى أميركا حيث أسّس شركة إنتاج هناك. كانت مرحلته اللبنانية مجرد وقت مستقطع كسب خلاله عيشه من الأفلام التي أخرجها.
وإذا كانت الأعمال الخفيفة التجارية سيطرت على هذه الحقبة، إلا أنّ ذلك لا يعني عدم وجود محاولات جادة أولها إنتاجات المصري هنري بركات (1912 ـــ 1997). رائد الرومانسية في السينما العربية سنشاهد له فيلمين هما «نغم في حياتي» (1975 ــــ 21/ 6 ـــ س: 8:00) و«أجمل أيام حياتي» (1974 ـــ 22/ 6 ـــ س: 8:00). قدّم «شيخ المخرجين» العديد من الأفلام الغنائية مع نجوم تلك المرحلة كفريد الأطرش (نغم في حياتي)، وتنوّعت أعماله بين العاطفية والدرامية والبوليسية، تميّزت جميعها بحرصه على الصورة.
ولعلّ أفضل ما تبقى من المرحلة اللبنانية المصرية هي أفلام يوسف شاهين وهنري بركات. السينمائي هادي زكّاك أضاء على هذه الحقبة من خلال شريطه الوثائقي «لبنان من خلال السينما» (2003) الذي سيعرض في تظاهرة «متروبوليس» يليه عرض الشريط القصير الذي أخرجه حسيب شمس «هاوي السينما». كذلك يعرض فيلمه الطويل «الجبابرة» (1963 ــــ 15/ 6 ــــ س: 8:30). أما أنطوان ريمي (1937 ــ 2002) الذي يحتل في الذاكرة الجماعية موقعه مخرجاً تلفزيونياً، فسنشاهد له «بيروت صفر 11» (1967 ـــ 13/ 6 ـــ س: 8:00) الذي يفتتح التظاهرة، يليه تكريم خاص للفنان إحسان صادق الذي تقاسم بطولة هذا العمل مع صباح. ويندرج فيلم ريمي، حكماً، ضمن سياق موجة الأفلام التي ميزت مرحلة الستينيات عبر الحبكة البوليسية التي تلعب بطولتها صباح وإحسان صادق وناديا جمال... وهذا ما يسري أيضاً على الفيلم الجاسوسي الذي يعرض في اليوم التالي «انتربول في بيروت» (1966 ــ س: 8:00) لكوستانوف مع طروب ورياض غلمية ومحمد عبد الوهاب.
في المؤتمر الصحافي الذي عقدته جمعية «متروبوليس» الاسبوع الماضي للاعلان عن التظاهرة القيّمة، أهدت هانية مروة هذه الدورة إلى إحسان صادق وصباح، كأنّما لتؤكّد على مكانة وجهين يحملان ملامح ذاك الزمن الجميل، ويجسّدان براءته الأولى.



«أجمل أيام حياتي»: 13 ـــ 22 حزيران (يونيو) ــ «متروبوليس أمبير صوفيل» (الاشرفية/ بيروت). للاستعلام: 01/204080