تونس | «إن روح الحرية التي حركت انتفاضة الشعب التونسي حتى انتخابات تشرين الأول (أكتوبر) 2011، تتعرض كل يوم لاعتداءات خطيرة، أدت إلى خلق مناخ من الخوف والعنف. بعد ستة أشهر على تكوين «المجلس التأسيسي»، تشهد تونس وضعية تبعث على قلق كبير». هكذا بدأ حوالى سبعين من أبرز المثقفين بيانهم عن «مستقبل الديموقراطية في تونس»، الذي انتشر أخيراً على شبكات التواصل الاجتماعي، ويهدف إلى جمع المزيد من التوقيعات.
عدّد الموقعون سلسلة من التجاوزات الخطيرة التي ارتكبت في حقّ حرية التفكير والتعبير، متهمين «حركة النهضة»، ومجموعات سلفية بالوقوف وراءها. ورأوا أنّ من شأن هذه التجاوزات أن تجهض المشروع الديموقراطي الذي كان التونسيون يعلقون عليه آمالاً كبيرة منذ الأيام الأولى لثورتهم. وتضمّ قائمة الموقعين كتّاباً ومثقفين وأكاديميين ومخرجين وفنانين وتشكيليين ونشطاء، أبرزهم الفاضل الجزيري، وتوفيق الجبالي، وعبد المجيد الشرفي، والطاهر البكري، ومحمد الصغير أولاد أحمد، ولطفي عيسى، ورجاء بن سلامة، وصوفي بسيس، وحمادي بن جاء بالله، والمنصف بن عبد الجليل، وآمنة بن ميلاد، وحمادي الرديسي، ومحمود طرشونة، وسعد الدين الزمرلي، وحمادي صمود، وآمال المثلوثي، وفريال لخضر، ودلندة الأرقش، وسامي العوادي، وسليم عمامو، والحبيب الجنحاني،
وغيرهم.
في بيانهم هذا، حمّل المثقفون حكومة «النهضة» وحليفيها «المؤتمر من أجل الجمهورية» و«التكتل من أجل العمل والحريات»، مسؤولية ما وصلت إليه البلاد من انهيار اقتصادي واحتقان اجتماعي يعصف بأحلام التونسيين وطموحهم إلى الحرية والديموقراطية والعدالة الاجتماعية. كذلك حملوا الثلاثي الحاكم مسؤولية هشاشة مؤسسات الدولة، التي صمدت في وجه الفوضى التي عمت البلاد بعد 14 كانون الثاني (يناير)، متهمين هذه الترويكا باستهداف الدولة، وببناء نمط مجتمعي مغاير لما عهده التونسيون، مثل محاولة استيحاء القوانين من الشريعة، وخصوصاً في ما يتعلق بالمرأة كمنع الإجهاض، والغاء الزواج المدني، والعودة قروناً إلى الوراء.
وجاء في البيان: «لقد قامت «حركة النهضة» في الأشهر الأخيرة، بتنفيذ خطة هجوم شامل على رموز الحداثة، من مؤسسات وشخصيات، كالاعتداءات على الجامعة من قبل متعصبين ومتطرفين، والاعتداء بالعنف اللفظي والجسدي على رجال التعليم والصحافيين ومقارّ وسائل الإعلام. وتظهر الرغبة في السيطرة على الإعلام من خلال تنظيم محاكمات رأي، والتهديد بخصخصة الإذاعات والقنوات الرسمية التي لم يتمكن الحكام الحاليون من إخضاعها وترويضها، فيما تعرّض «الاتحاد العام التونسي للشغل» إلى استفزازات دنيئة، وتضاعفت الهجمات ضد المثقفين والفنانين والجامعيين والفاعلين السياسيين، وترددت دعوات القتل في المساجد التي تحولت إلى فضاءات للفتنة والنشاط السياسي الديني». وأضاف الموقعون في تشخيصهم لحالة البلاد: «بات من الواضح أنّ حزب «النهضة» الممسك بجميع وزارات السيادة، يعمل على إضعاف سلطة الدولة، ويهدف إلى خلق مناخ من انعدام الأمن يؤدي إلى ترهيب كل من يعارض أطماعه في الهيمنة، لكن التعبئة ضد هذه الممارسات لم يعترها أي فتور ولا خمود، بل أثبت المواطنون قدرتهم على الإبداع ويقظتهم الديموقراطية، ولم يخلفوا أي موعد، وكانوا عفويين غيورين على استقلاليتهم، وقد تجمع كثير منهم في تظاهرات حاشدة نظمت في عيد الاستقلال يوم 20 آذار (مارس)، وفي عيد الشهداء يوم 9 نيسان (أبريل)، وفي عيد العمّال في الأول من أيار (مايو)، فكانت تظاهرات من أجل التأكيد على رفض الرجوع إلى الوراء والتشبث بالحرية. المجتمع التونسي ينشد مواصلة مسار تاريخي توجّهه عقلانية ديموقراطية عادلة وسلمية، تكون فيه تركيبة الهوية مبنية على الحرية». وعرّج البيان على صورة تونس في العالم التي تضررت بسبب الممارسات الغريبة عن ثقافة المواطن التونسي، ما يكشف عن عجز كامل للحكومة في كبح جماح العنف السلفي، الأمر الذي زاد الأزمة الاقتصادية تفاقماً، وأدى إلى ازدياد ديون تونس، ما قد يذهب بالبلد إلى المجهول. وتساءل هؤلاء عن الدور الذي يؤديه رئيس الجمهورية المؤقت، محمد المنصف المرزوقي، ورئيس «المجلس التأسيسي» مصطفى بن جعفر، في ظل الأوضاع الحالية، «فقد كان من المفترض أن يكونا بحكم انتمائهما إلى صف الديموقراطيين، قادرين على الاضطلاع بوظيفة نقدية حريصة على الفصل بين السياسة والدين من أجل الحد من إرادة هيمنة حركة «النهضة».
إلا أن ممارسة هذه المهمة كانت ضعيفة. وقد تعززت الشكوك حين ساوى الرئيس المؤقت للجمهورية بين الضحايا والمعتدين، في تعليقه على العنف المصلت يوم 9 نيسان (أبريل) 2012 على المتظاهرين المسالمين. فهل انقلب التحالف الذي من المفترض أن يكون يقظاً، إلى استسلام أطرافه التي أضحت رهينة إرادة «حركة النهضة؟». ورأى الموقعون على البيان أنّ اعتماد «حركة النهضة» (أقوى أحزاب الائتلاف الحاكم) على مجموعات من أنصارها والموالين لها لمنع المواطنين والنشطاء السياسيين من التعبير السلمي عن آرائهم، وحقهم في الاحتجاج ونقد الحكومة، مؤشر خطير جداً إلى مستقبل الانتقال الديموقراطي، كما يرون في سعيها إلى الهيمنة على الدولة بتعيينات الموالين والأنصار من دون اعتبار شرط الكفاءة، دليلاً على عدم استعداد الحكومة للتأسيس لمبدأ حياد الإدارة، الذي ناضلت من أجله أجيال من التونسيين في السابق. وجاء في البيان: «كيف نطمئن على مستقبل الديموقراطية حين نرى كيف تستخدم حكومة «النهضة» حزبيين غير أكفاء لشغل مناصب عليا في الإدارات الرسمية، عوضاً عن كبار موظفي الدولة، الذين يجري استبعادهم رغم ما يتمتعون به من كفاءة ونزاهة؟». وخلص الموقعون إلى الإقرار بعجز الأحزاب الجمهورية عن ضمان مبدأ تداول السلطة السلمي، وهو ما يسهل استراتيجية حركة «النهضة» في السيطرة على كل مفاصل الدولة، مشددين على ضرورة تأسيس ائتلاف جمهوري من «شأنه أن يجبر الحركة على مراجعة استراتيجيتها. «كما أن التوازن بين القوى السياسية من شأنه أن يؤدي الى إنعاش التيار الذي تعتمل فيه رغبة صادقة في جعل الإيمان متلائماً مع شروط الديموقراطية الحديثة، لا تلك التي تُخضع الديموقراطية لشروط الإيمان».



مقاومة ثقافية

يتزامن البيان مع حراك واسع تشهده تونس أطلقته بعض الجمعيات الثقافية التي تأسّس معظمها بعد الثورة، مثل «ثقافة ومواطنة» و«تونس الثقافة»، و«الاتحاد العام للفنانين التونسيين»، و«الجمعية التونسية لخريجي معاهد الفنون الدرامية». ومن آخر أنشطة هذه الجمعيات تظاهرة خرجت قبل أيام، منددة بـ«تسامح» الحكومة مع السلفيين الذين يعيثون خراباً في البلد.