معظم لوحات شفيق عبود (1926 ــــ 2004) هي حصيلة ممارسات وأفكار تدور بينه وبين نفسه. يمكن الحديث مطوّلاً عن الهواجس اللونية والمؤثرات البصرية في تجربة الرسام اللبناني الذي استقر في باريس منذ أربعينيات القرن الماضي حتى وفاته، لكننا لا نجد سيرورة متماسكة تسمح لنا بتوزيع حصيلة هذه التجربة على مراحل ومنعطفات واضحة. ما نسميه سيرورة مدفون ومطويّ بعناية فائقة في مناخات أعماله التي تُرينا مساحات ومكونات ذهنية وعاطفية أكثر مما تسمح لنا بتكوين انطباع نقدي نهائي وآمن. باستثناء بعض الأعمال التي عكست أحداثاً كبرى مثل ثلاثيته التجريدية عن هزيمة حزيران، وسلسلة لوحاته عن دمار الحرب الأهلية اللبنانية، فإن شفيق عبود ظل يحفر داخل تأملاته التجريدية التي تدين بالكثير لانطباعيات كلود مونيه وتجريدات بيار بونار الغنائية.
تتعزز وجهة النظر هذه في المعرض الضخم الذي يستضيفه «مركز بيروت للمعارض»، بمبادرة من كلود لومان، وبالتعاون مع «غاليري جانين ربيز» و«غاليري أجيال». يضم المعرض ما يزيد على مئة لوحة وعدد من المنحوتات الصغيرة وأعمال السيراميك، إضافة إلى دفاتر فنية ونصوص بخط اليد وبروشورات معارض سابقة.
هناك مسار تاريخي بديهي تصنعه اللوحات المنجزة في أزمنة مختلفة. مسارٌ يُظهر التطورات الطفيفة التي أنضجت تجربة عبود القائمة على هوية لبنانية ـــ شرقية، وتحديات الشتات الباريسي ومؤثرات المدرسة الباريسية الحديثة. لكن المسار التاريخي لا يترجم المسار التشكيلي بشكل آلي وفوري، كما أن الأعمال المعروضة لا تخضع لتسلسل صارم. إنها أعمال ومقتنيات تيسَّر جمعها في مكان واحد، ولا تصنع تمثيلاً صحيحاً ومتكاملاً لتجربة عبود الذي تحول اسمه إلى أيقونة لبنانية بسبب موهبته، وبسبب إمعان نقاده في تبنّي كليشيهات جاهزة وضحلة لوصف هذه الموهبة.
المسار الأمتن الذي يمكن للمعرض أن يترجمه هو مسارٌ حائر ومحتدم داخل الذاكرة والمزاج الشخصي. معظم اللوحات تصنع مسافةً مع الواقع، بينما الممارسات التجريدية تسهِّل تحقيق هذه المسافة. فن شفيق عبود هو شهادة على صراعات تقنية ورهانات لونية أكثر من كونها شهادة رخوة ومباشرة على الواقع. لا يغيب الواقع تماماً في أعماله، لكن حضوره ـــ الخافت والصامت على أي حال ـــ محكومٌ بالتخلي عن دسامته الواقعية، والذوبان في صمت التجريد وعلاقاته المحايدة. الحياد اللوني موجود في أعمالٍ قديمة تكشف ضجر عبود المبكر من الجماليات والتزيينات التقليدية لفنون المنظر والطبيعة الصامتة والبورتريه، كما هي الحال في سلسلة من 17 لوحة صغيرة تمتدح الطبيعة الريفية، كما نجده في تجريديات كبيرة قاتمة تعود إلى التسعينيات، وتكتفي ببؤر لونية تتناظر مع مساحة لونية شاسعة ومطفأة، كما هي الحال في لوحة Tender Regrets. ونراه يثرثر ويسترسل في أعمال ريفية تعود إلى الثمانينيات، أو في أعمال قائمة على مكونات صغيرة ومتجاورة داخل مساحة واحدة، بينما تتسامح غنائيته التجريدية مع بعض التعبيرات الواقعية والأشكال الهندسية، وتتخلى عن القتامة والحياد لصالح ألوان فاتحة ممتدة على مساحات واسعة.
قوة شفيق عبود موجودة في السيناريوهات المكتومة لألوانه، والمعادلات الخفية التي تجعل لوحته مساوية لعالمها ومزاجها. كأن حيرة الرسام ورهاناته المتواصلة تتحول إلى «طمأنينة» أسلوبية، تتحول بدورها إلى ماركة مسجلة باسمه. نعرف لوحة شفيق عبود من كونها خليطاً من ذاكرة محلية واستثمارات بارعة في تيارات الانطباعية والتجريد في الغرب. خليطٌ قائم على انضباط لوني صارم وقدرة هائلة على تخطي الإحداثيات الزمنية والمكانية. خليطٌ يجعل أعماله أقرب إلى أحلام متتالية وذكريات حميمة، ويحرمها من مباغتة المتلقي الذي يتجول في أروقة المعرض، وينتظر ـــ بلا جدوى ـــ تلك اللوحة (أو اللوحات) التي تبرر الحفاوة العالية التي يحظى بها الرسام، و«القداسة» النقدية المرافقة لاسمه.
لعلّ ما ينتظره المتلقي موجود بجرعات متفاوتة موزعة على الأعمال كلها. وجهة نظر معقولة، لكنها سرعان ما تتلقى شكوكاً (معقولة أيضاً) تنبعث من أعمال عادية معروضة إلى جوار أعمال مميزة. هكذا، يمكن أن يمارس توقيع الرسام نوعاً من إرهاب مسبق يُصادر انطباع الجمهور، ويطالبه بالانصياع لسمعة صاحب التوقيع وريادته الفنية.

* معرض استعادي لشفيق عبود: حتى 8 تموز (يوليو) المقبل ـــ «مركز بيروت للمعارض» ـــ للاستعلام: 01/980650



وفي باريس مجدداً


على هامش الحدث البيروتي، يحضر شفيق عبود (الصورة) هذه الأيام في باريس. أعماله موزعة حتى 23 حزيران على فضائين مختلفين، يديرهما كلود ليمان هاوي الفن، وصاحب الغاليري المتخصصة بأعمال عبود. من جهة معرض جماعي بعنوان «الابداع اللبناني، 1959 ـ 2012» يتضمّن أعمال 14 فناناً من شفيق عبود إلى أيمن بعلبكي. ومن الأخرى معرض «اللون قدري» الذي يضم لوحات وأعمالاً ليتوغرافية للفنان الراحل.