كان | على الورق، كانت الدورة 65 من «مهرجان كان» واعدة على كل الصعد. كوكبة لامعة من كبار صنّاع الفن السابع شاركوا في أعمال تتسم بالثراء والتنوع، وتيمات إشكالية كان متوقعاً أن تثير الجدل. لكن الرتابة خيمت على المهرجان، ولم يعثر جمهور الكروازيت على فيلم ينال الإجماع.
وإذا كانت أعمال سينمائيين أمثال والتر ساليس (على الطريق) أو ديفيد كروننبرغ (كوسموبوليس) قد خيبت الآمال، فإن أعمال بقية «الكبار» جاءت مميزة، لكن متقاربة، بدءاً من تحفة عباس كياروستامي «مثل عاشق»، مروراً بـ«حبّ» مايكل هانيكي الذي توّج بالسعفة الذهبية أمس بعد ثلاث سنوات فقط على نيله الجائزة نفسها عن «الشريطة البيضاء» (راجع المقال أدناه)، وصولاً إلى «نصيب الملائكة» لكين لوتش (جائزة لجنة التحكيم)، و«ما وراء الهضاب» لكريستيان مونجيو (جائزة السيناريو وجائزة أفضل أداء نسائي مناصفة بين كوسمينا ستراتان وكريستينا فلوتور). لذا، كان بإمكان الجوائز الرئيسية أن تتوزع بأكثر من طريقة، من دون أن يثير ذلك اعتراضاً.
لم يقتصر الأمر على تقارب المستويات الفنية. كان لافتاً تقارب التيمات، أبرزها تيمة الحبّ المستحيل التي كانت بمثابة بصمة «كان». كأنّ المصير التراجيدي لمارلين مونرو التي اختيرت أيقونة الدورة، ألقى بظلاله على مصائر شخوص الأفلام المشاركة. اختار عباس كياروستامي ومايكل هانيكي منحىً تفكيكياً ولغة مكثفة لسبر أغوار علاقات حب إشكالية وقصة زوجين عجوزين تباعد بينهما أعراض المرض والشيخوخة. بينما تناول أوديار ومونجيو التيمة ذاتها في قالب إنساني مؤثر. الأول صوّر معاناة عاشقين تفصل بينهما الإعاقة الجسدية، بينما تناول الثاني حرقة عاشقتين مثليتين تمزقهما عقدة الذنب الدينية التي تلقي بظلالها على علاقتهما «المحرّمة».
شكّلت المرافعة ضد شطط العولمة الليبرالية ثانية أبرز تيمات الدورة. في «كوسموبوليس»، قدم ديفيد كروننبرغ اقتباساً لرواية دون دليلو التي تروي يوماً في حياة رجل أعمال ثري (روبرت باتنسون) يستقل سيارته الليموزين في نيويورك للذهاب عند الحلاق، لكنه يعلق في أزمة سير بسبب تفجّر الأزمة المالية التي عصفت بوول ستريت في صيف ٢٠٠٨، قبل أن تمتد الى العالم. وإذا بالنظام الرأسمالي العالمي يختنق في «عجقة» الأزمات. تيمة الرأسمالية تناولها كين لوتش في «نصيب الملائكة» الذي نال جائزة لجنة التحكيم. يروي الشريط قصة شلة من الشبان المدانين بارتكاب سرقات صغيرة، يُحكم عليهم بساعات من الأشغال ذات المنفعة العامة، ويجدون في هذا البؤس الاجتماعي ملاذاً في ممارسة هواية ارتياد نوادي تذوق الويسكي الإيرلندي. حين صعد «اليساري الأشهر في السينما المعاصرة» لتسلّم جائزته أمس، وجّه تحية «إلى كل المناضلين ضدّ التقشّف» في إشارة إلى «الغاضبين» مثل «احتلوا وول ستريت» وحركات الاحتجاج ضدّ العولمة وتجاوزات الرأسماليّة. الى ذلك، شكلت أفلام السفر تيمة ثالثة. إلى جانب ليموزين كروننبرغ، هناك ليموزين مماثلة يتنقل فيها بطل Holy Motors لليوس كاراكس. وبالطبع، شكل السفر محور «على الطريق» المقتبس عن رواية جاك كيرواك. لكنّه خيّب الآمال بعدما جاء رتيباً. وبين المكسيك وإسبانيا وبلجيكا، يدور فيلم المكسيكي كارلوس ريغاداس «ضوء بعد العتمة» الذي حاز جائزة أفضل إخراج. فيما حاز جائزة «الكاميرا الذهبية» فيلم «وحوش الجنوب البري» للأميركي بن زيتلن.
أما الجوائز الأخرى، فقد توزّعت على الدانمركي مادز نيكلسن الذي نال جائزة أفضل ممثل عن دوره في The Hunt. فيما منحت لجنة التحكيم التي يرأسها ناني موريتي الإيطالي ماتيو غاروني الجائزة الكبرى عن «واقع» الذي يوجّه تحيّة الى سينما الواقعية الإيطالية في الستينيات. وكان غاروني قد حاز قبل أربعة أعوام الجائزة الكبرى أيضاً عن فيلمه «غومورا».





عرب المهرجان: جدل وجائزة

رغم الهجمات التي تعرض لها في الإعلام الجزائري («الأخبار» 24/5/2012)، حصل «التائب» لمرزاق علواش على جائزة «أوروبا سينما» ضمن تظاهرة «أسبوعي المخرجين». ويبدو أنّ «بعد الموقعة» ليسري نصر الله يواجه حملة مماثلة، والحفاوة النقدية التي استقبل بها على الكروازيت، زادت منتقديه عدائيةً. إذ اتهم هؤلاء الشريط المصري بأنّه ذو تمويل منتج صهيوني! وغاب عنهم أنّ المنتج ليس سوى اليساري جورج مارك بن حمو الذي كان مستشاراً خاصاً للرئيس الفرنسي فرنسوا ميتران، أدار في الثمانينيات مجلة «غلوب»، ثم أسبوعية l›événement du jeudi اليساريتين. ورغم كونه يهودياً فرنسياً من أصل جزائري، إلا أنّه لم تعرف عنه أي مواقف صهيونية.




الحبّ في كل أحواله



أستاذ جامعي ياباني عجوز يوزع وقته بين كتبه، ويتحايل على مرارة الوحدة وقسوة الشيخوخة، باستضافة بائعات هوى لمقاسمته العشاء. وإذا به يقع في غرام طالبة شابة قادمة من الريف تضطر إلى امتهان الدعارة لتمويل دراستها، وتجد في حنانه تعويضاً عن فظاظة خطيبها الأرعن. في المقابل، هناك زوجان فرنسيان مسنّان يعيشان حياتهما بهدوء، إلى أن تصيب نوبة دماغية الزوجة بالشلل النصفي، ما يدفع الزوج الى رهن كل وقته للاعتناء بها.
كان بإمكان قصتي الحب الإشكاليتين أن تجتمعا في فيلم واحد. لكن القصة اليابانية هي موضوع «مثل عاشق» لعباس كياروستامي، فيما تدور أحداث نظيرتها الفرنسية في «حبّ» لمايكل هانيكي. ورغم الفوارق المعروفة بين أسلوبي المعلمين الإيراني والنمساوي، إلا أنّ عوامل عدة تقرّب عمليهما بدءاً من المنحى المينيمالي الذي ينأى بنفسه عن البهرجة البصرية، وصولاً إلى الإيقاع البطيء والمشاهد التي يدور أغلبها في فضاءات مغلقة، مروراً بالأسلوب التفكيكي الذي لا يرسم بورتريهات شخوص الفيلمين وفق نمطية التنامي الخطي والحكائية الكلاسيكية، بل يميط اللثام عنها على دفعات، ليكشف تدريجاً عما يتفاعل في أعماقها من عقد وجراح وآلام دفينة.
لكن هذه التوأمة الفكرية والفنية بين الفيلمين لا تعني تشابه مضمونيهما. كلاهما يسلط الضوء على العنف النفسي والاجتماعي عبر قصة حب مستحيلة. هانيكي اختار كعادته الغوص في الجوانب الأشد قتامة في النفس البشرية. بعد العنف المراهق في فيلمه «ألعاب مسلية»، ها هو يسلط الضوء على عنف من نوع آخر. عنف لا ينبع من فورة الشباب، وما يحركها من تمرد وحبّ للحياة، بل من خريف الشيخوخة وما ينجم عنه من وهن وتهاوٍ جسدي وفكري. بعض مشاهد الفيلم التي يعتني خلالها جان لوي ترانتينيان بزوجته المقعدة (إيمانويل ريفا) تُعدّ الأقسى في أعمال هانيكي منذ «معلّمة البيانو».
ورغم أنّ جمهور المعلّم النمساوي اعتاد المضامين القاسية والرؤى السادية في أعماله، إلا أنّ «حب» شكّل صدمة قوية لمشاهديه، وخصوصاً أنّ هانيكي تعمّد مراوغة جمهوره الذي يتوقع طوال النصف الأول من الفيلم أن تتعلّق العقدة الدرامية بالانهيار التدريجي لحواس الزوجة المقعدة. وإذا بالمشاهد يفاجأ بانهيار أكبر هو الانهيار النفسي المدوّي للزوج الذي يتفاعل ويتصاعد على نار هادئة ولا ينتبه إليه أحد، حتى ابنته (الممثلة الأثيرة لهانيكي إيزابيل أوبير).
أما عباس كياروستامي، فيسلك طريقاً مغايراً لسبر أغوار العنف المطبق على العلاقات الإنسانية المعاصرة. عنف غير مرتبط بالنفسيات البشرية القاتمة أو بمفاهيم الخير والشر بمعانيها الكلاسيكية، بل بمصادفات الحياة ومفارقات الأقدار التي تصنع الأبطال وترقى بهم ليصبحوا بشراً خيّرين، وتطحن الأشرار في أتون العنف والإجرام. بهذا، يواصل صاحب «طعم الكرز» الأبحاث الجمالية والفكرية ذاتها التي بدأها في بيئته الإيرانية الأصل، بدءاً بـ«عشرة»، ثم انتقل بها الى الريفييرا الإيطالية في «صورة طبق الأصل» قبل أن يحط رحاله في طوكيو...
عثمان...