من هو الآخر عند الحركات الإسلامية المعاصرة؟ وأيّ دور للفكر الديني/ العقدي في رسم متخيل الإسلاميين عن المختلف؟ وكيف نظر دعاة الإسلام الحركي إلى الآخر المختلف (دينياً وسياسياً)؟ في أطروحته «الحركات والأحزاب الإسلامية وفهم الآخر» (دار الساقي)، يسعى صالح زهر الدين إلى الإجابة عن هذه الإشكاليات، العائدة إلى الضوء بفعل ارتدادات «الربيع العربي». لا يسلط صاحب «موسوعة معارك العرب» الضوء على هذه المرحلة التاريخية التي كرست نشوة الإسلاميين من المحيط إلى الخليج، بل يرصد أدبيات الحركات الإسلامية بشأن الآخر الديني والسياسي، ويختار مجموعة تبدأ بـ«حركة الإخوان المسلمين» في مصر، لتنتهي بـ«جماعة العدل والإحسان» في المغرب. يبدو الكتاب كأنّه عمل موسوعي. يدرس المؤرّخ والأكاديمي اللبناني نحو 13حزباً إسلامياً، ويتعقب تنظيرات الإسلاميين عن الآخر (الديني والسياسي).
يستهل عمله البحثي في قراءة صورة الآخر في التجربة النبوية وعند الخلفاء الراشدين، مقارباً فهم الآخر لدى بعض المتنورين الإسلاميين من أمثال: عبد الرحمن الكواكبي، ومحمد رشيد رضا، ومحمد عبده، وشكيب أرسلان، وجمال الدين الأفغاني وغيرهم.
حركة الإخوان المسلمين، الحركات الراديكالية في مصر، «حزب التحرير»، «حركة أمل» و«حزب الله»، «حركة النهضة»، الأحزاب الشيعية الإسلامية في العراق، الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الجزائر، الجبهة الإسلامية القومية في السودان، «حركة حماس»... مثّلت هذه النماذج المختارة صلب الكتاب، ويجهد صاحب «المنطقة العربية في ملف المخابرات الصهيونية» في تتبع أدبيات الإسلاميين حول الآخر السياسي والديني، ورغم وجود بعض التفاوت العقائدي في خلاصات هؤلاء، لكن منطق الإقصاء والنبذ يسيطر على خطابهم، وخصوصاً الراديكاليين منهم، كالجماعة الإسلامية في مصر. علماً بأنها أجرت مراجعات نقدية في أواسط التسعينيات، فلم تعد تنادي بتكفير الخصوم والحاكمية وجاهلية العالم والجهاد المسلح، وفقاً للأيديولوجية القطبية.
مثّل المزج الحاد بين الديني والسياسي إحدى أهم الفرضيات التي عالجها الكاتب في دراسته لأدبيات الإسلاميين عن الآخر. منهجياً، يعتمد زهر الدين بنحو كثيف على المادة التاريخية بهدف الإحاطة بظروف نشأة هذه الحركات، ويستخدم النقد أحياناً في تحليله الذي غلب عليه الطابع الانتقائي.
مع «حركة الإخوان المسلمين» (أمّ الحركات الإسلامية وأول تيار إسلامي سياسي ظهر بعد إلغاء الخلافة الإسلامية عام 1924)، يبدأ صاحب «تاريخ المسلمين الموحدين الدروز» رصده لهذا الآخر الماثل في خطاب إخوان مصر. مرت الحركة _ كما يلحظ الكاتب _ بمنعطفات تاريخية عدة، فما كان أيام مؤسس الحركة الإمام حسن البنّا اختلف نسبياً بعد اغتياله عام 1949، وخصوصاً أن الإخوانية المصرية دخلت في محنٍ كثيرة جراء الصدام المنظم مع السلطة، قبل أن تعدِّل أدبياتها تجاه من يخالفها الرأي، وتقطع مع العنف السياسي/ العسكري. ويذكر أنّ الجماعة أنشأت ذراعاً عسكرياً تحت قيادة عبد الرحمن السندي وانخرطت في أعمال عنف ونفذت اغتيالات بأمر من البنّا. ولا نعلم إذا كانت فعلاً قد حلّت جهازها الخاص كما تقول. وتحت شعار «الإسلام نحن ونحن الإسلام»، سعت مع جيلها الأول إلى إسقاط أيديولوجيتها بالقوة الدينية والسياسية، إلاّ أن هذا النهج تغير تدريجاً، ولم يعد الإخوان يدّعون أنّهم الوحيدون على الساحة المصرية، تحديداً بعد انخراطهم في العمل السياسي. لكن الحركة لم تجرِ مراجعات عقدية أساسية كما فعلت الجماعة الإسلامية وحركة الجهاد، وكان جمال البنّا شقيق حسن البنّا قد دعا في مقالة حديثة بعنوان «في انتظار مراجعة حقيقية من الإخوان المسلمين» إلى إجراء مراجعة جادة.
ينتقل زهر الدين إلى دراسة الحركات الإسلامية الأخرى المنتشرة في العالم العربي. ورغم الاختلاف في رؤيتها الأيديولوجية تجاه الآخر الديني والسياسي الماثل أمامها، تسيطر الرؤية الأحادية على الإسلاميين. صحيح أنّ عدداً من النماذج المدروسة قام بتحديث أدبياتها، وخصوصاً في الحالة التونسية التي تمثلها «حركة النهضة»، وأدرجت على أجندتها مصطلحات غربية للمرة الأولى كـ«التعددية والديموقراطية والمواطنة». لكن ثمة تساؤلات متداخلة ينبغي للإسلام الحركي المعدّل الإجابة عنها في ظل ربيعه الراهن: ما هي شروط المواطنَة التي يتحدثون عنها؟ وما هي طبيعة الدولة المدنية التي ينادون بها؟ وهل هم قادرون على قطيعة بين الديني والسياسي؟ ولماذا يبدو موقفهم ملتبساً وغامضاً من الأقليات الدينية، وخصوصاً الأقباط؟ لا تبشّر نسائم الربيع الإسلاموي بالتفاؤل. الإسلاميون اليوم وهم في السلطة، يكرسون خطاباً سياسياً مزدوجاً، وهذه الازدواجية تتضح في مقاربتهم لماهية الدولة والعلاقة مع الآخر الديني والسياسي. لا يغطي صالح زهر الدين التحولات الراهنة التي طرأت على خطاب الإسلاميين إثر الانتفاضات العربية، رغم أن الكتاب صدر عام 2012. لقد اكتفى بالتركيز في عمله الموسوعي على قضية أساسية تتعلّق بموقع الآخر السياسي والديني كما نظرت إليه الحركات الإسلامية بطرفيها المعدّل والمتطرف. هكذا، غطى نحو 13 أنموذجاً، لكنه تجاوز نماذج أخرى، كان من المهم التطرق إليها كالحالة الإيرانية والسعودية.
ثمة جامع مشترك بين الحركات الإسلامية يكشف عنه الكاتب في أكثر من موضع: سطوة اللغة البراغماتية السياسية. هذه الخاصية يلحظها في الأنموذج المصري الذي تمثله «حركة الإخوان المسلمين» وفي الأنموذج السوداني الذي تمثله «الجبهة الإسلامية القومية» (حلّت الجبهة على يد مؤسسها حسن الترابي بعد انقلاب 1989).
الحركات الإسلامية التي درسها الكاتب من حركة الإخوان في مصر إلى «حزب التحرير» العالمي، ومن «حركة أمل» و«حزب الله» في لبنان، إلى «حركة النهضة» في تونس، ومن الأحزاب الشيعية الإسلامية في العراق إلى «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» في الجزائر، ومن «الجبهة الإسلامية القومية» في السودان، إلى «حركة حماس» في فلسطين، تفاوتت حدة خطابها تجاه الآخر الديني والسياسي، لكن المشترك بينها ــ رغم ادعاءات البعض بحمل لواء التحديث ــ سيطرة الأيديولوجية الدينية والعنفية على تجاربها السابقة.
«الحركات والأحزاب الإسلامية وفهم الآخر» أقرب إلى العمل الموسوعي، تشوبه بعض نقاط الضعف، أبرزها عدم التوازن النقدي، وغلبة المنهج التاريخي على ما عداه. كان بمقدور الكاتب استعمال المقارنة بين النماذج المدروسة، لكنه اكتفى بتحليل خطابها تجاه الآخر السياسي والديني بما يتضمنه من إشكاليات حول الاختلاف والتعدد، تطرح اليوم بقوة بعد الانتصار الذي حققه الإسلامويون.