مع روايته الثالثة «ألبوم الخسارة» (دار الساقي)، لم يعد عباس بيضون شاعراً مكرّساً يجرّب حظه في الرواية. ليس العدد وحده يجعلنا نتعامل بجديّة مع رواياته، بل جديّة الروايات نفسها. باكورته «تحليل دم» (2002) التي تضمنت سيرة عمه الموصولة بقصص العائلة، عانت إلى حدٍّ ما تحويل النثر الشعري الذي برع فيه بيضون إلى نثر سردي، لكن هذه المعاناة تلاشت مع «مرايا فرانكشتاين» (2010)، وها هي روايته الثالثة تضعنا في مواجهة سرد يستطيع أن يدافع عن نفسه من دون التسلّح بالتاريخ الشعري لصاحبه.
الواقع أن صاحب «الوقت بجرعات كبيرة» لم يكن يوماً شاعراً بالمعنى الحصري والمائع لهذه الصفة. جزء كبير من شعره كان افتتاناً بجماليات جافة ومحايدة للنثر، ولذلك «لا أشعر بغربة كاملة حين أكتب الرواية»، يقول بيضون، مؤكداً أن الرواية كانت هاجساً مستمراً لديه، وأن باكورته المنشورة هي في الحقيقة روايته الثانية، بينما إصدار الأولى محكوم بالتأجيل منذ عشرين عاماً. تبدأ الرواية من لحظة إحساس الراوي/ المؤلِّف بثقل الوصول إلى منتصف ستينياته، وكل ما يلي ذلك هو تقليب صور منتقاة في ألبوم شخصي. الخسارة متأتية من التقدم في السن، بينما تصبح الذكريات وأشخاصها مادةً لتزجية وقت الراوي وزمن الرواية. الرواية مكتوبة على شكل فصول متصلة ومنفصلة. تقنية كهذه تُعفي المؤلف (والقارئ أيضاً) من الثقل الذي يفرضه التسلسل التقليدي للزمن والأحداث. ينقِّل بيضون الأحداث والحكايات برشاقة بين الحاضر والماضي. الحاضر هو سيرة رجل يَشيخ بصحبة قطٍّ اسمه «نينو»، والماضي هو شذرات من سيرته. يتحول القط إلى قرين شخصي. يهرمان معاً وينتظران المصير ذاته. «كان عجوزاً مثلي وكرهته لأنه كذلك، وفضّلتُ أن يموت بدلاً مني»، يقول الراوي الذي يصف قرينه بأنه «أخٌ حيواني»، وأنه «عباس القطّ».
في النهاية، يموت «نينو»، تاركاً عباس الراوي وحيداً في مواجهة هواجسه، التي نجد لها قرابةً مع هواجس مشابهة في «مرايا فرانكشتاين». كأن ما نقرأه هو جزءٌ ثانٍ من «عَثَرَاته» وبراعته الآسرة في جذب المتلقي إلى الفناء الخلفي لأفكاره وتخيلاته عن نفسه. لا يعترض صاحب «نقد الألم» على هذا التوصيف، لكنه يشير إلى أنّ الرواية لا تقدم سيرةً إلى القارئ، بل هي إنتاج أدبي للذاكرة التي تتعرّض طوال الوقت لإعادة تركيب وإعادة كتابة. بالنسبة إليه: «هناك انزياحٌ مستمر يجعل الرواية كياناً مستقلاً عن الذكريات التي تتألف منها. قيمة الرواية تأتي من الأدب وليس من ذكريات صاحبها». بهذا المعنى، تبدو علاقات الراوي مع «إكرام» و«رمزية» و«استريد»، واستعادته لحكايات عن زاهي وموسى وأمين وآخرين تقاسم معهم تجربة الحزب والحرب الأهلية والاجتياح الإسرائيلي، أشبه بلعبة سردية يصبح التذكر فيها مصحوباً بالسخرية والتشكيك. كأن هذه الذكريات لم تحدث، أو حدثت على نحو خاطئ، أو حدثت للشخص الخطأ. هكذا، يمتدح الراوي تجربته الحزبية والسياسية، ويتهكم على أوهامها. تتعدد علاقاته النسائية، لكنه يتبرّم منها ويضجر بسرعة، أو يعلل ذلك بوجود صديقة ثابتة لديه. حتى علاقته بابنه وابنته، وذكرياته عن أمه وأبيه وجده، تتعرض لأداء أسلوبي مشابه. أما هو، فينظر إلى نفسه كـ «شخص أعثر» أو«مجنون عادي» يصرِّف «جنونه» بين أصحابه. فنّ عباس بيضون موجود هنا. الراوية هي استئناف ذكي لنبرته المتفردة ومعجمه القَلِق ولغته المسنّنة والدقيقة. العلاقة مع «نينو» وحدها تصلح لرواية كاملة، بل لعلها مادة جديدة على الرواية العربية كلها. يتصرف بيضون مع الرواية كأنه أجنبيُّها. سيرته كشاعر، تُخفّف شعوره بـ «المسؤولية التاريخية» التي يشعر بها الروائيون اتجاه الرواية. لا يلهو صاحب «صور» في الرواية طبعاً، لكنه لا يُبدي صرامةً رسمية نجدها في أساليب معظم كتّاب الرواية العربية. كأن الشاعر يواصل «أجنبيّته» التي بدأ بها تجربته الشعرية. نتذكر الجاذبية الغريبة والمحايدة التي حملتها قصائد باكورته مقارنةً بالرطانة البلاغية والميوعة الغنائية السائدة وقتها، لكن لماذا الرواية؟ يقول بيضون إنه لا يشعر بتغيير في مساره ونبرته أثناء كتابة الرواية. «ما زلتُ الكاتب نفسه، وأستطيع نقل تطلباتي في الشعر إلى السرد، وهي البحث عن كتابة غير آمنة، وجملة جافة تمتلك القدرة على الاستفزاز». في المقابل، يُدهشنا صاحب «بطاقة لشخصين» بحديثه الذكي والعذب عن كون الرواية فناً متكلماً مقارنة بصمت الشعر. «أكتب الرواية بحافز الوصول بالكتابة إلى شيء يشبه كتابة الشعر. ما يأخذني إلى الرواية هو الرغبة في الحكي. في الشعر، هناك إحساس بضرورة أن تكون شحيحاً وضنيناً، بينما الرواية سخيّة أكثر». يشير إلى انتهائه من رواية ستصدر قريباً بعنوان «أربع خطوات على الجليد»، وستصنع ما يشبه خاتمة لثلاثية تقوم على استثمار السيرة والذاكرة. هل السيرة تؤمّن سيولة جاهزة لكتابة الرواية؟ يقول إنه لا يجد تفوقاً لموضوع الرواية على لغتها وأسلوبها، ويطالبنا بانتظار رواية رابعة يعكف على كتابتها حالياً. «رواية لا علاقة لها بي»، يضيف ضاحكاً.