في روايتها الخامسة «ملكوت هذه الأرض» (الآداب) تعود هدى بركات إلى ما يمكن وصفه بـ«فردوس مفقود». إنها رواية البحث عن «زمن ضائع» تجري أحداثه قبيل إعلان الاستقلال في أوائل الأربعينيات وتصل إلى حدود الحرب الأهلية في بداية السبعينيات. من خلال عائلة «المزوّقية» التي يموت مُعيلها تجمداً في عاصفة ثلجية وتأكله الضباع، تصوغ بركات التحولات التى طرأت على الجبل اللبناني وتحديداً منطقة بشري ومجتمعها الماروني. لا تمتدح صاحبة «حجر الضحك» هذا الزمن ولا تهجوه، بل تُعيد كتابته بموازاة التاريخ الحقيقي أو الرسمي. هكذا، تنشغل الرواية بمعاينة التفاصيل المهملة التي لا تلحظها الحركة الشاملة والمتسارعة للتاريخ.
يُلقي موت الأب في مستهل الرواية، ثم موت الأم المفاجئ، ظلالاً تراجيدية على العائلة والبلدة والرواية برمّتها. اليُتْم يضاعف الأسى الذي يحكم حياة الأشقاء الخمسة، وخصوصاً طنوس وسلمى اللذين يتناوبان على سرد الرواية. الجبل أو الريف اللبناني الموجود كصورة جميلة ونقية في الذاكرة، ينكشف عن أحوالٍ شاقة ومصائر مؤلمة لبشرٍ يعيشون عزلاتٍ متعددة، تبدأ بعزلة الدين التي تجعل الآخر غريباً ومشبوهاً، ولا تنتهي بعزلة الجغرافيا القاسية التي تضيّق الخناق على خياراتهم، بينما تتناهى إلينا شذراتٌ من حزازاتٍ مع مسيحيين من طوائف أخرى في منطقة زغرتا المجاورة.
الخطوط العامة لزمن الرواية وبيئتها مصحوبة مع سِيَرٍ وحكايات تصنع بيئةً سردية موازية ومطوية بعناية داخل الزمن العام. الحكايات المتعددة تصبّ في حكاية واحدة، هي حكاية العطب الداخلي الذي يسري في روح أهالي البلدة ومصائرهم القاسية، بينما تعيش الشخصيتان الرئيستان عطباً من نوع آخر. يهرب طنوس إلى سوريا بعد مقتل جندي فرنسي، تاركاً وراءه صبية أحبها، وأختاً سيفوتها قطار الحب والزواج، وهي منهكمة بترميم حياة العائلة.
يعود طنوس في نهاية الرواية، ليتقاسم مذاق الفوات والاكتهال مع سلمى، بينما «تنفسد» البلدة في الخلفية، وتفقد ألفتها وعزلتها. ينتقل «عطب» العاصمة والساحل إلى الجبل، فتنتشر تجارة الحشيش، وتُشيَّد فنادق وصالات سينما ونوادٍ ليلية، وتُفتتح محال تجارية جديدة. كأن «عنوسة» الشقيقين إشارة مواربة إلى احتضار حياة قديمة، ونشوء حياة جديدة ومختلفة في البلدة. بطريقة ما، يذكِّرنا العطب الجمعي في الرواية، بعطبٍ آخر رافق شخصيات هدى بركات، وخصوصاً في روايتي «حجر الضحك» و«سيدي وحبيبي».
لكن بخلاف رواياتها السابقة، تعكس شخصيات الرواية الجديدة التقاليد السائدة في بيئتها الأصلية أكثر من أدائها الفردي الخاص. كأنّ الحكايات الشخصية مرايا سوسيولوجية تتجلى فيها التحولات التي عصفت بالمكان وسكانه، وحولت أحلامهم إلى خيبات متتالية تنتهي على تخوم الحرب الأهلية التي ستأذن بظهور «عطب» أكبر لن يكتفي بالبلدة وحدها، بل سيشمل البلد كله. المذاق السوسيولوجي يتعزَّز بلغة الرواية التي هي «لغة المكان نفسه، وليس لغة الأدب»، كما تقول بركات. لغة تترجم عادات الناس وفلكلورهم اليومي، ومروية على ألسنتهم من دون أن تخضع لكتابة ثانية. هكذا، تحضر العامية إلى جوار الفصحى المبسّطة، وتحضر الشتائم بحق الناس والدين إلى جوار الصلوات والأدعية التي تُكثر الشخصيات من تلاوتها.
كأن الرواية ترثي لغة المكان داخل رثائها الشامل للحياة التي سادت فيه. كأن البحث عن «الفردوس المفقود» ينتهي إلى تأكيد فقدانه إلى الأبد. لعل ذلك يترجم جزءاً من سيرة المؤلفة التي عاشت في المكان نفسه، قبل أن تهجِّرها الحرب المندلعة في نهاية الرواية إلى فرنسا.



عن موطن لا يصبح وطناً

«الجبل الماروني ليس أكثر من نموذج يمكن استبداله بمكان لطائفة لبنانية أخرى»، تقول هدى بركات في سياق عدم تضخيم «البعد العاطفي» الذي يربطها شخصياً بالمكان. بالنسبة إليها، الرواية تتحدث عن «موطن» لا يتحول إلى «وطن» طالما أن الروح الجامعة لا تربط أبناءه بطريقة صائبة. صاحبة «رسائل الغريبة» المقيمة حالياً في برلين بزمالة من مؤسسة «فيسنشافت كوليج»، لا تريد أن توصف روايتها بـ «العودة إلى الجذور»، بينما هي قائمة على طبقات سردية واجتماعية وسياسية تتحرك تحت فكرة «العقل الأقلوي» الذي يحكم حياة الشخصيات، ويتحول إلى «لعنة» تمنع تسرُّبهم خارجها. لعنةٌ ضاعفت مأساة طنوس حين غادر المكان مؤقتاً، وأعادته كي يتقاسم عزلته مع الآخرين.