ليس مستغرباً أن يختار كواليس «مسرح الحمراء» الدمشقي مكاناً للقائنا به. لطالما كان المسرح ملجأه الوحيد، هرباً من طفولة قاسية. هكذا، سيبدي الفنان والمخرج المسرحي السوري حسين إدلبي تأثراً بالغاً وهو يستذكر تلك الطفولة التي قضاها في أحد الأحياء الشعبية في حلب. «أنا الابن البكر لعائلة كانت تعيش كفافاً. كان والدي يعمل في مجال البقالة. عندما أنهيت المرحلة الابتدائية، أخبرني أنه عاجز تماماً عن مساعدتي في متابعة الدراسة».
وجد ابن الثلاثة عشر عاماً نفسه وهو يبيع المأكولات والحلويات في بسطة صغيرة يتنقل بها بين الأحياء الشعبية. لاحقاً، اشتغل حسين إدلبي في مهن كثيرة بهدف تأمين مصروف الدراسة، مثل شراء الدراجات الهوائية وصيانتها ثم بيعها. صعوده الأول إلى خشبة المسرح كان عام 1957، في فترة الوحدة بين سوريا ومصر. حينها، ساعده أستاذ من الإقليم الجنوبي (مصر كما كانت تُسمى في ذلك الوقت)، للحصول على دور في مسرحية «مصرع كليوبترا» لأحمد شوقي. عشق حسين إدلبي لعبة الدراما، وأغراه تقمُّص الأدوار وعيشها على الخشبة. بعد مرحلة قضاها بين أندية حلب الشعبية التي كانت تقدّم نشاطات فنية للهواة، وجد الشاب اليافع ضالّته في «مسرح الشعب» الذي كان يديره الفنان عمر حجّو. كان المسرح يقدّم اسكيتشات تمثيلية صامتة، وبعض المشاهد الساخرة والناقدة. «أتذكر مسرحية «الحرب» التي أخرجها بدر المهندس ولعبت بطولتها المطلقة أنا وثناء دبسي... كأن العرض لم يمض عليه أكثر من نصف قرن».
جذبت أنشطة «مسرح الشعب» اهتمام المسؤولين في حكومة الوحدة، ما شجعهم على دعوة فريق العمل إلى القيام بجولة في جميع محافظات ومدن القُطر الجنوبي، استمرت ثلاثة أسابيع قُدم خلالها 17 عرضاً. «عرضنا مسرحياتنا في كل المدن إضافة إلى غزة. أتذكر حتى اليوم منظر الجنود الإنكليز على شاطئ البحر، وهم يرتدون بناطليهم القصيرة». بعد العودة من الجولة في أرض الكنانة، انتقل إدلبي من مرحلة الهواية إلى الاحتراف، حين عُين ممثلاً محترفاً في فرقة «المسرح القومي» الذي كان يديره في ذلك الوقت الفنان الكبير نهاد قلعي. «كنت أتقاضى راتباً شهرياً مقداره 195 ليرة سورية. كان كافياً لاستئجار غرفة صغيرة، وتأمين مصروفي الشخصي، إضافة إلى مساعدة عائلتي بجزء منه».
في تلك الفترة، قدّم إدلبي عدداً كبير من المسرحيات إلى جانب أهم المخرجين والممثلين، مثل مسرحية نيكولاي غوغول «المفتش العام» للمخرج هاني صنوبر، ومسرحية موليير «البرجوازي النبيل» التي أخرجها نهاد قلعي. في عام 1960، شارك إدلبي في مسابقة لاختيار عدد من الطلاب لدراسة الإخراج المسرحي في مصر. قرر ترْك كلية الحقوق في جامعة حلب، ليحقق حلمه في دراسة الفن الرابع، «لكنّ جريمة الانفصال بين سوريا ومصر حالت دون ذلك. ما زلت أتذكر وقع الانفصال عليّ حتى الآن... كانت صدمة موجعة لشخص مثلي لا يزال مؤمناً بالوحدة وبطروحات جمال عبد الناصر حتى يومنا». هكذا، تحوّلت البعثة الدراسية من مصر إلى ألمانيا الغربية. ظلّ حسين إدلبي تائهاً عاماً كاملاً في برلين الغربية، بعدما «نسَتْ» وزارة الثقافة السورية أن تسجّل الطلاب في الكليات حسب اختصاصاتهم، أو أن تؤمن أماكنَ لإقامتهم. انتقل إلى النمسا عام 1963، ليدرس المسرح في معهد صغير يقع في مدينة غراتس الجنوبية: «شاركت في مشاهد مسرحية عدة أثناء دراستي، وقدمت أداوراً مختلفة باللغة الألمانية. كنت أفكر طوال الوقت في العودة سريعاً إلى سوريا، لنقل خبراتي ومعارفي الجديدة، ومشاركتها مع الأصدقاء والزملاء القدامى».
أنهى حسين إدلبي دراسته الأكاديمية في بلد موزار، وعاد إلى حلب حاملاً شهادة دبلوم في الإخراج المسرحي. ساهم مع رفاق «مسرح الشعب» القدامى في تأسيس فرقة للمسرح القومي في حلب، تابعة مالياً وإدارياً لوزارة الثقافة السورية، كما هي الحال مع فرقة المسرح القومي في دمشق. لكن بعد تشكيل الفرقة والبدء بالعمل، تغير وزير الثقافة، وجاء وزير جديد، لم يكتف بإيقاف الدعم المالي والمعنوي فقط، بل أصدر قراراً بإلغاء الفرقة أيضاً: «لجأنا حينها إلى محافظ حلب عبد الغني السعداوي الذي سألني عن مقدار حاجتنا المالية لإنشاء الفرقة. أجبته بعفوية: 50 ألف ليرة سورية سنوياً. كان هذا المبلغ الضئيل الذي قدمه لنا كافياً لإنشاء فرقة مسرح حلب القومي المحترفة، التي ما زالت تقدم عروضها حتى يومنا هذا».
من أهم أسماء المسرحيين الذين عمل معهم إدلبي في فرقة المسرح القومي في حلب، بشار القاضي وزوجته سعاد العمر، وهدى الركبي ووالدتها سعدية غريب، وشريف شاكر الذي سافر إلى روسيا لدراسة الإخراج المسرحي، وفؤاد الراشد، وفؤاد الجراح، وأديب قدورة... «كنا أسرة واحدة، تعاونا وتفانينا جميعاً لتقديم أعمال مسرحية مختلفة. كان هدفنا إرساء هذا الفن في حلب التي نحبها ونعشقها». أخرج إدلبي للمسرح القومي الوليد حديثاً، سبع مسرحيات خلال خمس سنوات، أهمها «هبط ملاك في بابل» للسويسري فريدريش دورنمات، و«السيد بونتيلا وتابعه ماتي» لبرتولد بريخت، و«مأساة غيفارا» للفلسطيني معين بسيسو التي نالت جائزة درع منظمة التحرير الفلسطينية. «أرى أن تلك السنوات (من 1968 إلى 1972) أكثر سنوات حياتي عطاء وإنتاجاً».
في خريف 1972، قرر إدلبي الانتقال للعمل في المسرح القومي في دمشق، باحثاً عن خبرات جديدة. عمل في العاصمة ممثلاً في مسرحيات مختلفة، وأخرج 19 عملاً مسرحياً لصالح المسرح القومي والمسرح الجوال. بعيداً عن الخشبة، شارك حسين إدلبي في المسلسل التلفزيوني «رابعة العدوية» من إخراج نزار شرابي، والمسلسل الإذاعي «أم كلثوم». وفي السينما، كانت له ثلاث مشاركات في «الفهد» (1972) لنبيل المالح، و«حبيبتي حب التوت» (1979) لمروان حداد، و«إمبراطورية غوار» (1982) لمروان عكاوي. «فكرت مرات كثيرة في احتراف التمثيل والإخراج السينمائي، لكنني تراجعت عن ذلك، وبقيت أميناً للمسرح الذي أعتبره عشقي وهاجسي الأول والأخير». تدرّج إدلبي في مناصب إدارية مسرحية مختلفة، إلى أنْ شغل منصب إدارة المسرح القومي في دمشق لسنوات. وعندما بلغ السن القانونية للتقاعد عام 1999، جُمد نشاطه المسرحي وحرم من مزاولته. «صدمت لدى إبلاغي قرار التقاعد، لأنني كنت لا أزال في أوج عطائي الفني. على أثر قرار التقاعد هذا، لم تتح لي فرصة إخراج عمل مسرحي جديد، إلى أن كلفت بإخراج مسرحية «الأميرة والصعلوك» هذا العام». العمل الذي قدّمه إدلبي أخيراً على خشبة «مسرح الحمراء» الدمشقي، هو الـ 30 في مسيرته التي اختزلت جزءاً من تاريخ الحركة المسرحية السورية. اليوم، يشتغل إدلبي على إعداد مسرحية «عطيل» لشكسبير. «سأحاول تقديمها ضمن قالب احتفالي غنائي كرنفالي، مختلف تماماً عن أسلوب التراجيديا الشكسبيرية».



5 تواريخ

1939
الولادة في مدينة حلب

1957
قدم أول أدواره المسرحية في «مصرع كليوبترا» لأحمد شوقي

1967
نال دبلوماً في الإخراج المسرحي
من النمسا

1999
أحيل إلى التقاعد من إدارة المسرح القومي في دمشق

2012
قدم «الأميرة والصعلوك» على «مسرح الحمراء» في دمشق، ويعمل على إعداد مسرحية «عطيل» لشكسبير