سافر رشيد غصين إلى السعودية، هرباً من الظروف الاقتصادية الصعبة وبحثاً عن مصدر رزق يعول زوجته مريم وأطفالهما الذين تركهم في قريتهم في جنوب لبنان. مرت الأيام من دون أن يستطيع رشيد العودة إلى الديار والعمل هنا، قرب عائلته. وجدت مريم نفسها وحيدة في معظم أشهر السنة، منهمكةً في تربية أولادها والاهتمام بصحتهم. قبل سفر رشيد، كان للزوجان طفل وحيد، هو جلال. أما بعد السفر، فقد رزقا أحمد، ونبيلة، وكرم.
اجتاح الجيش الإسرائيلي لبنان، وضاقت الأحوال المادية أكثر فأكثر، وكبر الأطفال في كنف أمهم بعيدين عن أبيهم المسافر. لم يكن ثمة تواصل بين مريم ورشيد، سوى الرسائل الصوتية التي كانا يتبادلانها على أشرطة الكاسيت، منذ 1978 حتى أواخر الثمانينيات. على تلك التسجيلات الصوتية يستند الابن، المخرج اللبناني أحمد غصين (1981) ليقدم عمله الأخير فيديو «أبي ما زال شيوعياً» (32 د) الذي ستعرضه «متروبوليس أمبير صوفيل» هذا الأسبوع ضمن برنامجها «دفاتر يومية: شهر السينما اللبنانية».
شريط قد تخال أنه بسيط في تركيبته، لكنه غني جداً في تفاصيله لجهة الدلالات التاريخية، والاقتصادية، والسياسية التي يتضمنها. وهو في الوقت نفسه، يروي قصة حب تؤدي بطولتها امرأة جميلة تُدعى مريم. للوهلة الأولى، يُمكن اختصار تركيبة الفيلم بشريط صوتي مؤلف من تسجيلات الأم على مر السنين من دون تسجيلات الأب، يتوازى مع شريط لصور ومشاهد بأغلبيتها تظهر والدة المخرج، اليوم، مع بعض مشاهد لأضواء سيارات تخرق ظلام الليل، ومشاهد أخرى مركبة، ومحركة.
اختار المخرج أن يضيف والده إلى ألبوم صور العائلة التي كان غائباً عنها. لكن في قلب تلك البساطة المطلقة، استطاع أحمد غصين أن يخلق جوّاً يأسر المشاهد من أول الفيديو حتى نهايته، خاطفاً إياه إلى عوالم الحب، والحزن، والفرح والجمال... ودافعاً شريط الصور إلى التحاور مع الشريط الصوتي بشاعرية عالية. قد يكون هناك الكثير من النساء الآتيات من طبقة اجتماعية متواضعة، اللواتي وجدن أنفسهن يوماً وهنّ يسجّلن رسائل صوتية لأزواجهن المغتربين عن الوطن لدواعي العمل. ومريم، ربما، إحدى تلك النساء اللواتي لا نعرف عنهنّ الكثير. لكننا في فيديو أحمد غصين استطعنا أن نستمع إليها، وأن نشهد تلك اللحظات (الصوتية) الحميمية والصادقة التي جمعتها بالرجل الذي أحبته.
حين سجّلت مريم مشاعرها بصدق على الكاسيت، لم تدرك أن ما همسته لزوجها سيستمع إليه كمٌّ كبير من البشر. «وهاي بوسة على شفافك، وهاي بوسة على صدرك. وإذا كنت عم بتتسمع على الشريط بالليل، هلأ غمض عينيك هيك، واحلم، احلم كيف كنا». أحبته، وعبّرت عن اشتياقها، وعاتبته، ووبخته، ثم قبلته. خاطبته كأنه أمامها. توقعت ردود فعله وراحت تحاول إقناعه. أجابته عن أسئلة تخاله يسألها، حتى إنها قدمت له القهوة! كل ذلك يجري أمام مسجّلة كانت دوماً تخاف أن تخونها تقنياً، فلا تسجّل كل ما قالته.
تخبر مريم زوجها عن الاجتياح الإسرائيلي للبنان، كما اختبرته شخصياً مع أطفالها. نسمع صوت الطفل أحمد، وهي تشرح لرشيد عن تردي الأحوال، ونقص البضائع الغذائية واللحم من السوق. تحزن على الأيام التي تمر من دون... تغص وتدمع. تحاسبه على غيابه، وترْكها وحدها في ظل تلك الظروف الصعبة. تسرد له بالتفصيل كيف أنجبت طفلهما الجديد، كرم، وتسمعه بكاءه. رسائل حميمة، لا تنسى فيها أن تقبل عينيه قبل أن توقف التسجيل.
«أبي ما زال شيوعياً» فيديو يقدم عبره أحمد غصين إهداءً إلى تلك الأم التي ناضلت في سبيل تربية أطفالها والحفاظ على العائلة في ظل غياب زوجها الذي أحبته، والظروف الصعبة التي واجهتها. كذلك، هو فيديو شخصي، يحاول فيه المخرج الإجابة عن أسئلة كثيرة تتصل بماضيه، وبالأب الغائب. رحلة تطهّرية، ومصالحة مع الذات والماضي. لكن تلك المواد الحميمة جداً، والشخصيات التي ليست سوى أهل المخرج، لم تأسره ضمن القالب الشخصي، المغلق على الجمهور. هكذا، انطلاقاً من التسجيلات الصوتية المونولوجية لوالدته، استطاع أحمد غصين أن يرسم صورة لنسيج اجتماعي، واقتصادي وسياسي، حيث أفراده ليس معترفاً بهم كأبطال، لكنهم كذلك في نظر أبنائهم. نجح غصين في نقل تلك اللحظات الحميمة جداً، وجعلها تخص كل مشاهد وتحتفي بكل بطل من هؤلاء الأبطال. ورغم أن الفيديو يعود بنا إلى حقبة ماضية، إلا أنه لا يغرق في النوستالجيا، لأنه بعفويته يخاطب الإنسان في أصدق مشاعره، في الضعف، والفرح، والقوة، والحب... مشاعر لا زمن ولا مساحة لها.
وكما اختلق الطفل أحمد قصة لتبرير غياب أبيه، حيث كان يحارب مع الشيوعيين على الجبهة... فكذلك المخرج أحمد اليوم، يروي قصة من أحبّ، ومن اعتبره بطلاً، ومن اعتبر أنه ما زال شيوعياً.

* «أبي ما زال شيوعياً»: ابتداءً من 24 أيار (مايو) ـــ «متروبوليس أمبير صوفيل» (الأشرفية ـ بيروت) ــ
للاستعلام: 01/204080
www.metropoliscinema.net



سيرة

مباشرة بعد تخرّجه من معهد الفنون الجميلة (قسم المسرح) في الجامعة اللبنانية، نال أحمد غصين جائزة أفضل مخرج في «مهرجان بيروت الدولي للسينما» (٢٠٠٤) عن فيلمه القصير «عمليّة رقم...». أخرج مذّاك أفلاماً وثائقيّة وأعمال فيديو عدة، من بينها: «٢١٠م» (٢٠٠٧) من إنتاج «أشكال ألوان»، و«وجوه تصفق لوحدها» (٢٠٠٨)، و«العربي قادم إلى المدينة» (٢٠٠٨). وقد نال «أبي ما زال شيوعياً» جائزة شهادة تقدير خلال «مهرجان الدوحة ترايبيكا» عام 2011.