كان | كأنّ شيئاً من روح الراحل الكبير يوسف شاهين خيّم على الكروازيت أمس، خلال عرض «بعد الموقعة» الذي يدخل به يسري نصر الله، أحد أبرز تلامذة صاحب «إسكندرية ليه»، السباق على السعفة الذهبية. وقد سبق لنصر الله أن شارك في التشكيلة الرسمية عام ٢٠٠٤ بـ«باب الشمس»، لكن عمله المقتبس عن رواية الياس خوري الشهيرة، عرض آنذاك خارج المسابقة. وها هو يكرَّس في مصاف الكبار في «كان» بعد الحفاوة النقدية التي قوبل بها فيلمه الجديد. وقال رئيس «مهرجان كان» جيل جاكوب في لقاء مع «الأخبار»: «أنا سعيد بحضور يسري نصر الله في التشكيلة الرسمية. هذا ليس فقط لأنه من تلامذة يوسف شاهين الذي كان واحداً من أعز أصدقائي، لكن أيضاً بفضل ما برهن عليه في هذا العمل من تميز ونضج، وخصوصاً على صعيد الرؤيا الإخراجية».
بالفعل يتسم «بعد الموقعة» ببنية إخراجية لافتة، وخصوصاً لجهة الغوص في تفاصيل الحياة اليومية للفئات المهمشة وهمومها. وهو بذلك لا يحيل الى أعمال المعلم يوسف شاهين فحسب، بل يغرف من التراث الخصب لسينما الواقعية المصرية، ويذكّر بأعمال الراحل الكبير صلاح أبو سيف.
يرصد الفيلم تقاطع مساري شخصيتين تبدوان في البداية متضادتين لا شيء يجمعهما تقريباً: محمود، مربي الخيول المقيم في حي عشوائي محاذ لأهرامات الجيزة، وريم الناشطة الحقوقية المنحدرة من الطبقة الميسورة. لكنّ الحاج عبد الله، الشخصية الإقطاعية التي تستغلّ مربي الخيول والجِمال الفقراء في الأحياء القريبة من الأهرامات، يزجّ بمحمود في التعدي على المعتصمين في ميدان التحرير ضمن ما يُعرف بـ«موقعة الجمل» الشهيرة التي كانت نقطة تحول في مسار الثورة المصرية. بخلاف غالبية رفاقها من النشطاء، الذين رأوا في مربي الخيول الذين هاجموا المعتصمين قوى رجعية معادية للثورة، تدافع ريم عن هؤلاء لاقتناعها بأنّهم ضحايا مغرر بهم من قبل أجهزة النظام السابق. ويقودها سعيها لإثبات ذلك ميدانياً الى الارتباط مع محمود بعلاقة غرامية إشكالية، تقود ابنة المجتمع المخملي الى اكتشاف عوالم المسحوقين والمهمشين من أبناء بلدها. أما محمود فتدفع به هذه العلاقة الى التمرد على الحاج عبد الله، الذي يرمز الى قوى الثورة المضادة، والانضمام الى المعتصمين، ليقتل في مجزرة ماسبيرو الشهيرة.
رغم أنّ الفيلم لم يخل من بعض التبسيطية الميلودرامية، وخصوصاً في ما يتعلق بعلاقة ريم بفاطمة زوجة محمود، إلا أنّ نصر الله قدم هنا مقاربة مغايرة للثورة المصرية وللمتناقضات السياسية التي تفاعل في إطارها الحراك الشعبي الذي أطاح نظام مبارك. كما أنّ الشريط كان لافتاً في أسلوب مزاوجته بين التوثيق والتخييل، وفي منحاه التفكيكي لأحداث الثورة ودوافعها والتحولات التي واكبتها. تفادى نصر الله أي خطاب حماسي أو رومانسية ثورية، مفضلاً المنحى المينميالي الذي بلغ أوجه في المشهد الختامي الذي يقتل فيه محمود في واقعة ماسبيرو، ثم يظهر في مشهد متخيل يتسلق كتلاً صخرية ضخمة، ثم تتراجع الكاميرا تدريجاً ويتسع المشهد، ليكتشف المشاهد أنّ محمود يتسلق الهرم في خياله، فيما جثته المصابة مرمية في سيارة إسعاف...