المطربة الكبيرة التي انقطعت عن الأضواء مرتين بسبب زواجها أواسط الستينيات، ولأسباب صحيّة في العام 2001، كانت كلّ مرّة تعود، وتبدأ حياة جديدة في عالم الفنّ… ولم تكن تتوقّع أن تفاجئها السكتة القلبية هكذا في شقّتها القاهريّة عصر الخميس، وهي تنضح حماسة، وتضجّ بالمشاريع، رغم متاعبها الصحيّة. إنطفأت وردة محمد الفتوكي (1939 ـــ 2012) على حين غفلة، تاركة الطرب العربي الأصيل في حداد، وعشرات آلاف العشّاق على امتداد العالم العربي من بيروت ودمشق والقاهرة إلى الجزائر، مفجوعين بالخبر الذي انتشر بسرعة على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث تزاحمت التعليقات، وبينها كلمات أغنيتها الأثيرة: «خليك هنا خليك… بلاش تفارق».
السيّدة الباسمة، المرحة، التي كان للجمهور اللبناني الحظ في مشاهدتها للمرّة الأخيرة على المسرح في أسواق بيروت خلال أيلول (سبتمبر) الماضي بفضل شركة Moon & Stars، هي أسطورة حيّة. لقد عبرت مدناً كثيرة: الولادة في باريس التي طردت منها عائلتها في عزّ حرب تحرير الجزائر، ثم بيروت التي شهدت بداياتها في بلد أمّها، ودمشق أيضاً وطبعاً… ثم القاهرة أرض التكريس، حيث تلقّفها ملحنون كبار من رياض السنباطي إلى سيّد مكاوي، من محمد عبد الوهاب إلى صلاح الشرنوبي. والجزائر أرض الجذور دائماً وأبداً، لصيقة باسمها، لصيقة بمزاجها ووجدانها. غنت للثورات وللأوطان وللحبّ، صافحت رؤساء وعايشت عمالقة الزمن الجميل، وخاضت زيجتين وعانت أمراضاً وعمليات كثيرة وأحاطت بها الأضواء من كل صوب... ثم رحلت هكذا «في يوم وليلة».
«بودّعك من غير كلام ولا ملام»… الأغنية التي أدّتها في عزّ مجدها وشهرتها صارت ذات طعم مختلف يوم الغياب. هكذا، ودعت وردة أهلها وناسها أمس بعد إصابتها بأزمة قلبيّة في العاصمة المصريّة، ورحلت عن عمر ناهز 73 عاماً. في لحظة واحدة، نستعيد الأرشيف الجميل لهذه الفنانة: «قلبي سعيد»، و«أكذب عليك»، و«في يوم وليلة»، و«وحشتوني»، و«قال ايه بيسألوني»، و«شعوري ناحيتك»، و«لولا الملامة» وسواها الكثير.
بعد رحلة طويلة من العطاء، أرادت أن تختصر عمراً كاملاً في ثلاث دقائق فقط. أخبرتنا عن الأمس واليوم في أغنية نسجها كلاماً هاني عبد الكريم ولحناً خالد عز، وقدّمتها في مشاهد حميمة ضمن أغنية «اللي ضاع من عمري» التي أهدتها إلى محبّيها، وقدمتها تحت إدارة المخرجة المصريّة ساندرا نشأت من دون فذلكات إخراجيّة. إنّها المطربة التي لم ترتوِ من الفن وظلّ عشّاقها ينتظرون جديدها، حتى بعدما ارتفعت الأصوات في الآونة الأخيرة تطالبها بالاعتزال. ببساطة، ردّت وردة بكلّ ثقة بأنّها لن تعتزل وستظل تغني حتى الرمق الأخير ولو من دون مقابل.
هي امرأة تتنفس فنّاً وغناء منذ زمن بعيد. منذ الطفولة الباريسيّة، حيث ولدت لأب جزائري وأم لبنانيّة من عائلة يموت البيروتية، وصولاً إلى الأمس القريب، حين قدمت الأغنية الوطنية «ما زال واقفين» التي أنجزتها في الذكرى الخمسين لاستقلال الجزائر. غنّت للحب والأمل، للوطن والثورة، وعاشت في زمن العمالقة والفن الجميل، وتعاملت مع الكبار، وشكلت علامة فارقة في عالم الغناء.
انطلقت نجوميّة الفنانة الجزائريّة بين بيروت ودمشق، وتحديداً بالأغنيات الوطنيّة والثوريّة. من لا يذكرها في أوبريت «الوطن الأكبر» لموسيقار الأجيال محمد عبد الوهّاب؟ كان ذلك عام 1958 حين تقاسمت مقاطع الأوبريت مع عبد الحليم حافظ وصباح وشادية ونجاة الصغيرة وفايدة كام. جاء ذلك بعدما سمعها «الريّس» جمال عبد الناصر تغني «أنا من الجزائر أنا عربية» و«كلنا جميلة» (بوحيرد) عبر الإذاعة السوريّة أيام الوحدة بين مصر وسوريا. في هذا المكان، ابتسم الحظ لها أكثر من مرّة، إذ اختارها أيضاً المخرج والمنتج المصري حلمي رفلة للمشاركة في فيلمه «ألمظ وعبده الحامولي» (1962)، فبدأت رحلتها في المحروسة.
عشقت وردة مصر بجنون، وكانت أول فنانة من المغرب العربي تقصدها بعد الراقصة ليلى الجزائرية. وكانت أيضاً المكان الذي عاشت فيه أيّامها الأخيرة. وكما مصر، كذلك لبنان الذي كان له مكانته في قلبها ووجدانها. أما قصّة الحب الجنونيّة فتحتفظ بها للجزائر التي ستحتضن جسدها غداً.
منذ وصولها إلى مصر، لفتت كبار الملحنين أمثال رياض السنباطي الذي قدّم لها «يا حبيبي لا تقل لي». وفي منتصف الستينيات، عادت إلى بلدها الأم، حيث تزوجت الدبلوماسي جمال القصيري الذي اشترط عليها عدم إكمال مسيرتها الفنية. لكن بعدما رزقت بولديها رياض ووداد، قررت أن تتحدى «الظروف» وتعود إلى الفن. لبت دعوة الرئيس الجزائري هواري بومدين للغناء في ذكرى استقلال الجزائر العاشر عام 1972، ولم يتأخر زوجها حتى حرّرها من عقد الزواج. طارت وردة مجدداً إلى مصر، حيث ارتبطت بقصة حبّ مع الملحن بليغ حمدي توجت أيضاً بالزواج، وصنعت يومذاك نجاحاً فاق التوقعات مع أغنيات «إسمعوني»، «وحشتوني»، «بلاش تفارق»، «لو سألوك»، و«العيون السود». كما كانت لها مساهمات في السينما المصريّة كـ «أميرة العرب» (1963). كما قدمت فيلم «حكايتي مع الزمان» مع رشدي أباظة، و«صوت الحب» مع حسن يوسف. أما تلفزيونياً فقدمت مسلسل «أوراق الورد» مع عمر الحريري، ثم مسلسل «آن الأوان» الذي بدا كأنه تجسيد لسيرتها الذاتية بتصرف حيث قدمت شخصية سيدة تملك شركة إنتاج، وتدعم الأصوات الواعدة.
وردة وضعت نقطة النهاية في روزنامة حياتها، وستوارى في الثرى غداً في الجزائر (راجع المقال أدناه)، لكنّ أوراق فنها وأغنياتها، باقية عند جمهور يعشقها ويحفظ أغنياتها من المحيط إلى الخليج.

تم تعديل هذا النص عن نسختة الأصلية المنشورة بتاريخ 18 أيّار 2012