دمشق | لم تحتج الأزمة السورية سوى إلى بضعة أسابيع لتخلّف انقساماً في الشارع السوري. وقد أسهم طول أمدها في زيادة حدة الانقسام، حتى تحوّل بعض وسائل الإعلام إلى منابر لتصفية الحسابات بين الأطراف المتنازعين. الأمر ذاته حصل على الشبكة العنكبوتية، التي تحوّلت إلى مساحات يتبادل بها الشباب السوري الاتهامات والشتائم، وتحضر صفة الخيانة كلازمة في التعليقات حول أي موضوع سياسي. حتى راح بعض المراقبين يسخرون من الطريقة التي يتحاور بها السوريون، لكونها تبدأ من الآراء السياسية وتنتهي بشتائم من الطراز الرفيع! وفي سياق متصل، خلّف الواقع السوري الجديد انقساماً من نوع آخر بين وسائل الإعلام المؤيدة للنظام والأخرى المناهضة له. واشتعلت حروب اعتمدت على الردود والتكذيب والاتهامات التي اقترن بعضها بدلائل وألقي بعضها الآخر جزافاً... ولم يتوقف الأمر هنا، بل امتد ليشمل مواقف تبنّتها بعض الشخصيات المحسوبة على الوسط الفني والثقافي، وبعض معارضي الداخل السوري من بعض وسائل الإعلام كفضائيات وصحف.
منذ انعقاد المؤتمر الأول للمعارضة في دمشق داخل فندق «سميراميس»، رفض بعض المعارضين يومها إجراء أي لقاء مع تلفزيون «الدنيا» بوصفه يدافع عن النظام وممارساته... طبعاً، فالقناة السورية أعدت تقريرها وعرضت فيه صور المعارضين وهم يشيحون بوجوههم عن كاميرا «الدنيا»، كاسبةً بذلك جزءاً ولو بسيطاً من تعاطف الجمهور.
لكن مع توالي الأحداث، فإنّ شخصيات عديدة يفترض أن تقدم في هذه المرحلة نموذجاً للديموقراطية وقبول الآخر، تمترست وراء مواقف متصلّبة من بعض الوسائل الإعلامية، التي عدّتها مساندة للنظام السوري أو معارضة له بحسب اعتقاد كل شخصية. وقد امتنع هؤلاء عن الإدلاء بآرائهم حول أي موضوع حتى لو كان الأمر بعيداً عن السياسة أصلاً.
هكذا، سبق للمخرج السوري نجدت أنزور المعروف بتأييده للنظام أن امتنع عن التصريح لـ «الأخبار» كنوع من الاعتراض على مواقفها التي عدّها يومها معادية للنظام. كذلك، امتنع الصحافي زياد غصن رئيس تحرير جريدة «تشرين» الحكومية عن الإدلاء برأيه في الكثير من المناسبات لبعض الوسائل الإعلامية التي عدّها معارضة، لكن في الضفة المقابلة، امتنع بعض المعارضين السياسيين عن الإدلاء بشهاداتهم حول أحداث مهمة بسبب اعتراضهم على مواقف الجهة الإعلامية التي تود التحدّث معهم. هذا ما فعله المعارض السوري ياسين الحاج صالح وتكرّر مع الكاتب المعارض فايز سارة. ولم تتوقف المسألة عند الأسماء التي تنتمي إلى المعارضة، بل وصلت إلى بعض الشخصيات المعنية بصناعة الدراما. هكذا، رفضت المعارضتان كاتبتا السيناريو يم مشهدي وريما فليحان التصريح لـ «الأخبار» عما تعرضتا له من مضايقات وتهديدات على الفايسبوك من موالين للنظام...
وحول انتشار هذه الظاهرة وإعلان ما يشبه الفيتو على بعض الوسائل الإعلامية، يفصح أحد الإعلاميين السوريين العاملين في صحيفة عربية ممنوعة من دخول سوريا لـ «الأخبار»: «لهذا الموضوع أسباب عدة، منها موضوعي ناتج عن تجربة سيئة في السابق مع هذه الجهات، أي إنّ بعض المعارضين استقبل وسائل إعلام تعدّ مؤيدة وتعامل معها على نحو طبيعي، ففوجئ بعمليات القص المعتادة ووضع التصريح في سياق مغاير. وفي أماكن أخرى، هناك من يتعامل بهذه الطريقة من باب التعصّب المسبق والتصنيف المسلم به والأحكام المبرمجة». ويضيف الإعلامي الذي فضّل عدم الكشف عن اسمه إنّه لا يجوز التعامل مع المنابر الإعلامية على اعتبار أنّها ستحرّف حكماً حديث الشخصية، كما أنّ هذه التصرفات تأتي أحياناً لزيادة الرصيد الجماهيري من خلال حركات استعراضية مماثلة يقدم عليها الشخص المعني».
إذاً، بعدما أتحفتنا بعض الفضائيات العربية بما يشبه الفيتو الذي أصدرته غيابياً بحقّ شخصيات معارضة حملت نفَساً معتدلاً، ها هم حملة شعلة الديموقراطية يصدرون حكماً مشابهاً بحق الوسائل الإعلامية التي لا
تروقهم.