دمشق | طول أمد الانتفاضة السورية، بالمقارنة مع مثيلاتها في بلدان «الربيع العربي»، وضعها افتراضيّاً في خندقٍ آخر، يتصاعد منه دخان الاتهامات المتبادلة والإقصاء والتخوين. هناك بلطة افتراضيّة تتربص بعنق كل من يقف في الخندق المضاد. ما بدأ بعبارة «واحد واحد الشعب السوري واحد» انتهى إلى شعوب وقبائل وطوائف متنازعة.
النبرة الطائفية تسللت إلى الموقع الأزرق، وإذا بها تحوّله إلى شاشة سوداء ملطّخة بالأحقاد، ووصلة طويلة من «الردح» المتبادل، بمشاركة ناشطين معروفين. تسمية يوم الجمعة انزلقت تدريجاً من شعارات وطنية رحبة إلى بلاغة إسلامية مستلة من معجم سلفي، ما استدعى نفيراً عالياً بين أقوام الفايسبوك، فباتت هذه التسمية «أمّ المعارك» في نهاية كل أسبوع. يصعب إحصاء عدد قتلى المعارك الافتراضية بالمقارنة مع ما يحدث فعلياً في شوارع التظاهرات. المعركة هنا محتدمة بوجود الجيوش الإلكترونية والهاكرز، والتشبيح الوطني. خدمة «بلوك» أطاحت صداقات قديمة، افتراضية وواقعية، جراء تعليق، لم يعجب الآخر، أو رأي مضاد، ولطالما انتقلت هذه المعارك إلى المقاهي، لتنتهي بتبادل اللكمات.
هكذا تناسلت المواقع بالجملة والمفرّق، دكاكين لبيع المواقف المجانية، أو التحريض، أو التبشير بالنصر القريب. الدم السوري المستباح، هو وليمة الطرفين المتحاربين في الإدانة. كلما سال الدّم في الشوارع أكثر، تعلو نبرة الإدانة، فيما يتخندق هؤلاء بالبيجاما، يرسمون إحداثيات المعركة، فوق تضاريس صفحاتهم الشخصيّة. الخاسر الوحيد في هذه المعركة الافتراضية، هو صوت العقل. تعليق عقلاني واحد، سيضع صاحبه تحت وابل من الحجارة الافتراضية، ورجمه بشتائم من العيار الثقيل. اللافت أنّ سوريي المنفى الاختياري أو القسري، هم أكثر من يسعى إلى إيقاد النار وإشعال الحرائق بتعليقات تعبويّة ساخنة، تشبه هتافات جمهور مشجعي ملاعب كرة القدم. أبطال وهميّون يتجوّلون في شوارع الفايسبوك بأناقة أولاً، لينحدر النقاش في النهاية إلى سوقيّة كاملة، وسعار محموم.
السوري المقموع طوال عقود، يعيش مخاضاً عسيراً لاكتشاف ذاته، واستعادة حواسّه. لذلك، لم يتخلّص تماماً من إعاقته العضوية خلال تمارينه اليومية الشاقّة على تعلّم النطق. من هنا نلحظ هذه العبارات العرجاء، والإقصائية، وتكميم الأفواه المضاد. يشكو أحدهم من سياسة الزّي الموحّد، فيما يقوم بممارسة هذه السياسة حرفيّاً على الآخر: إما أن تعبدَ أصنامي، أو أن اتهمك بالكفر. لن يجرؤ أحد على المطالبة بإسعاف البلد إلى أقرب مشفى، لمعالجة الكسور والرضوض التي أصابته خلال السنة الفائتة، أو كتابة عبارة «المجلس الوطني لا يمثّلني» مثلاً.
تواصل أم عراك؟ سوريا مدنيّة، أم طائفية؟ انتفاضة أم مؤامرة؟ لا أحد يرغب في الإجابة عن هذه الأسئلة، فمعركة كسر العظم مستمرة حتى إشعار آخر. كتب أحدهم: «لو كان أخي شبّيحاً لقتلته»، فردّ عليه آخر بالتعليق الآتي: «لو كان أخوك شبّيحاً لقتلك».