القاهرة | ربما كان النشاط الأبرز للفايسبوك وتويتر منذ انطلاق الربيع العربي هو التزايد المفرط في عملية الحجب (block) بين المستخدمين. ربما ـــ أيضاً ـــ أصبحت العبارة الأشهر بين المستخدمين هي «كل من يوافق على كذا أو كذا (إجراءات المجلس العسكري المصري أو النظام السوري)، فليرفعني من قائمة أصدقائه». أحياناً، تتم العملية نفسها بالإيجاب بدلاً من السلب (سأحذف من قائمة أصدقائي كل من يؤيد الزعيم الفلاني أو النظام العلاني، وكل من لا يرفض المذبحة ضد الأقباط أو كل من يطلق السباب الطائفي، كل من يؤيد أو يرفض تسليح المعارضة أو كل من ينوي انتخاب الفلول أو الإسلام السياسي). في الكثير من الأحيان، يبدو أنّ مواقع التواصل الاجتماعي تقوم بالشيء ونقيضه. تؤدي دورها الأساسي في ارتباط دوائر واسعة جداً من البشر، ما كانت لتلتقي ربما لولا الواقع الافتراضي، وفي المقابل، فإنها قد تؤدي في الوقت ذاته إلى خسارة المستخدم بعض أقرب أصدقائه إثر نقاش جدي يكون غالباً حول السياسة، ثم ينقلب إلى الطائفة أو الحزب أو الاتجاه الانتخابي أو حتى تكتيك مواجهة النظام.
هل يصبح الناس أكثر عصبيةً على فايسبوك وتويتر مقارنة بالواقع «الحقيقي»؟ يبدو ذلك. على الإنترنت، لا وجود لتعابير الوجه أو حركات اليدين أو أشكال التواصل الإنسانية الطبيعية. لا جلسة حول مائدة شاي في الشرفة أو حول كأس في بار، لا وجود للارتباك أو التأخر في تكوين الرد. الجميع يمتلكون الوقت كله قبل طبع ردودهم اللاذعة. وربما الأهم أنّه لا وجود لموعد انتهاء النقاش والعودة إلى المنزل. الكل متاح 24 ساعة في اليوم، و7 أيام في الأسبوع. النقاش قد يمتد يوماً وأسبوعاً وشهراً حتى ينتهي الاستحقاق الانتخابي أو الثوري، والردود والنقاشات تظل قابعة في مكانها، فلا يمكن لصاحب الرد أن ينكره. الإهانة ليست محصورة بين شخصين أو أكثر، بل متاحة تحت أعين المئات والآلاف، لا يمكن تجاهلها أو نسيانها، والإنترنت يفرض لغته الاختصارية المتحللة من آداب الحديث الاجتماعي. لا يبقى من الحوار إلا الحجة بالحجة، والسبة للسبة، والنقاش يدور على حائط الفايسبوك ويظل يدور كلما أضاف أحدهم رداً جديداً أو أعاد نشر الحوار، فلا ينتهي أبداً بين يوم أو ليلة أو أسبوع وآخر. الحجج والبراهين ليست مجرد كلمات. هي مدعومة بالصور وروابط المقالات والأخبار والاعترافات والتصريحات والبيانات الرسمية والحقائق والشائعات ومقاطع الفيديو، وبين هذا كله، يؤمن كل مستخدم أنه امتلك الحقيقة ببراهين لا يسبّب تجاهلها من قبل الآخرين سوى الغضب والسخرية.
ومع ذلك، فإنه كما في الواقع الحقيقي، ينحو نشاط الفايسبوك نحو تكوين عصابات الأصدقاء (الشلل) أيضاً. شللية افتراضية، لكنها تشبه الحقيقية، توحّد موقفها من أي قضية مهما اختلفت القضايا. والأغرب أنها تفعل ذلك دونما اتفاق أو تعمد، فيبدو كما لو أنّ الفايسبوك يكشف أنماط تفكير أكثر مما يكشف تنوع آراء بعينها. المنفتحون يبدون متخاذلين في أعين المتشددين، والجذريون يبدون منغلقين في أعين الوسطيين، وهكذا، فإنّ ثمة «شلة» شاردة دوماً عن القطيع، وأخرى هجومية، وثالثة ساخرة، ورابعة تأكل نفسها نقاشاً ومشاجرات، وهلمّ جرا في أشكال تتعدد بتعدد الخصائص الطبيعية للجماعات الإنسانية.
المؤكد أنّه منذ سقوط زين العابدين بن علي، غاب التواصل الحميم عن مواقع التواصل العربي، ندرت الأغنيات والقصائد وأهداف كرة القدم، وحضر كل ما كان يهرب منه العربي في الواقع الحقيقي: العنف والطائفية والمنازعات على أشكالها، لكن الثورة حضرت أيضاً ولا تزال، وربما كان في ذلك العزاء الكافي.



ذهنيّة القرون الوسطى

مع اشتعال الساحة السورية، بدأت اللغة الطائفية المقيتة تتسلّل إلى الفايسبوكيين اللبنانيين. سيطرت مفردات «شيعة»، و«سنة» على الحوار الذي حوّل الروّاد إلى قبائل وملل. وإذا نجح بعضهم في تجنّب هذا الفخ، فإنّه سينجر إلى لغة تخوين الآخر.
الأزمة السورية التي قسمت روّاد مواقع التواصل اللبنانيين إلى معسكرين، تُرجمت بمناوشات ومعارك وحروب افتراضية، إلى أن تخندقت كل مجموعة مع شلّتها التي تشبهها في الرأي والموقف، بعيداً عن الخصم. أما على تويتر، فكيفي أن تكتب كلمة «شيعة» أو «سنة» ليُفتح لك صندوق العجائب والغرائب من السعودية والبحرين ومصر على امتداد العالم العربي... لا شيء تغيّر بين الأمس واليوم. كل ما فعلناه أنّنا دخلنا الثورة الرقمية بذهنية القرون الوسطى.