لأنّ الكتابةَ أكبرُ من الكاتب والفكر أكبر من الرأس، يعكس السائرُ ظلالاً أضخم من حجمه ويترك وراء صوته صدىً أبلغ من صوته.هل صدفةٌ هذه المفارقة؟ مجرّد رَمْية نَرْد أنْ يكون صنيع الإنسان أعظم من الإنسان، أحقّ منه بالوجود؟ أم الصُدْفة لؤلؤتنا التائهة، يتاح لنا بين حين وآخر أن نلتفت أو ننحني فنجدها قَبْضَ اليد، طيّ الماء، عند اللازورد، لدى غيمِ الوجه أو في العينين؟
لو كان على الخالق شاهدٌ أثناء التكوين... لعلّه كان سائِلَهُ مَن البادئ: الكلمةُ أم صاحبها؟

■ ■ ■


الكتابةُ عن المحبوب تستحضره، الكتابة كثيراً عنه تذهب به.
الكلمة توجِد، لكنّها لا تعرف الحدود، تَجْمح وتَجْنح، تَنتهك قانونها، تخرق جدارها، وبَدَل أنْ تمضي في الإيجاد تُعْدِم. ما يملك حقّ الخَلْق يملكه حقّ الإعدام.
المبالغةُ في الوجودِ تَبَخُّر.

■ ■ ■


«في البدء كان الكلمة».
كأنّه كان يجب أن تظلّ (أو يظلّ) هنالك في البدء.

■ ■ ■


... ونتداولها طعاماً وشراباً، مجابهةً وتهرُّباً، متناسين ضعفنا وضعفها، غير آمنين إلّا بهذا الإدمان.
وهي لنا شعرٌ ونثر معاً، إبحارٌ وتناثُر، صمتٌ ونشيد، مَرْمحٌ وأحضان، ومختلف أنواع الاستدانة من الحبّ.

■ ■ ■


مَن المَدين للآخر أكثر، الكاتب أم الكتابة؟ الكاتب والكتابة أم القارئ؟ قبل أن أعرف الكتابة عرفتُ الذهول. قبل أن أعرف الذهول عرفتُ الخوف. قبل أن أعرف الخوف فتحتُ عينيّ.
لا أعرف مَنْ دائني الأكبر.
كنتُ حمماً عشوائيّة يقذفها بركانٌ يَكْرَهُ فوضاه ويحاول تنظيمها برشقِ المجهول. كان ذلك مرحلة تحرير الجنون. كنتُ مديناً للّذين تَحمّلوني.
ولا أزال. الكاتب ضائع يجده القارئ.

■ ■ ■


تتّخذ الصدفةُ حيناً شكل الصاعقة ومرّاتٍ شكل الدسيسة. في الحالين صاعقة، الأولى صاعقةٌ باهرة مُطيحة والثانية صاعقة متسلّلة، كالنعاس. مفعول الأولى فوري والثانية متغلغل سرّاً. الأولى معرَّضة للابتذال مثل كل ما يتجمّع كلّه دفعةً واحدة في البداية. الثانية، الأكثر خَفَراً وتقشّفاً في البداية، غالباً ما تفاجئ وتدهش تصاعديّاً.

■ ■ ■


بين خوض غمار الحياة والتأمّل فيها يكاد الفرق يكون محصوراً في الصيغة. العامل الكادح ليس أقرب إلى المعاناة المعيشيّة والوجوديّة من المؤلّف الموسيقي أو الفيلسوف. ربّما أحياناً العكس: ما تراه العين المجرَّدة ويختبره الجسم مباشرةً يبقى صورةً محدودة في المكان والزمان ما لم يُجنّح به الذهن، ما لم يُعِد ربطها بما قبل، وما بعد، وما وراء.
على المستوى الأدبي _ الفنّي، الأرستقراطي أو الميتافيزيكي المتأمّل لا يقلّان معرفةً وإبداعاً في التعبير عن البؤس، لا يقلّان شأناً عن «المتخصّص» في العمّال والفقراء. مثلاً: تولستوي وغوركي، دوستيوفسكي وإيليا أهرنبورغ. شتّان.
طه حسين في «دعاء الكروان» أبلغ من معظم الأدب المصري «الاشتراكي». جبران، في أدب «المرحلة اللبنانيّة» خصوصاً، أصدق شعوراً وأجمل تعبيراً من الأدب اللبناني «الملتزم». الكاهن اللبناني الماروني طانيوس منعم كتب حرائق «شيوعيّة» تنضح عَرَقاً ودماً دون أن ينتقص ذلك ذرّة من تأمّلاته وكهنوته. لا أعرف في أدب نقد الذات أعنف من قصيدة نزار قبّاني «خبز وحشيش وقمر». نزار قبّاني «أهرام الحَلَمات» لم يدانِهِ أحد في ما يسمّيه عمر فاخوري ورئيف خوري وفؤاد كنعان «أدب الحياة». أدب الحياة هو الأدب الخلّاق، هو أدب الخلّاق. حتّى ميخائيل نعيمة في ضباب شخروبه لطالما كان أكثر نبضاً من سهيل إدريس في التزامه النضالي.
عند المَصْهَر المطلق يلتقي الخطّان، يتكاملان. كان موزار يرتجل موسيقاه ويرميها في اللحظة وفي الديمومة. وكان بيتهوفن يلملم ميلودياته تارةً من إيقاعاته المخنوقة الهادرة في رؤاه، وطوراً من الكرنفالات والقرى. وعند المفترق يتلاقى النجمان، يملأ كلّ منهما فراغ العطاء المنوط به.

■ ■ ■


كانت الشاعرة ناديا تويني تقول لي «أنت تحبّ لا لتحبّ بل لتكتب. المرأةُ تولم لك الشعر». قيل ويقال ذلك في أدباء كثر. الشاعر هو المتهم الرئيسي بالنرجسيّة. الشاعر وكلّ مَن يعمل في بيادر التعبير. خصامٌ أدبيّ ونفسي قديم.
صاحبة «حزيران والكافرات» استخلصت نتيجة نصف صحيحة من سبب خاطئ. لا أحبّ لأكتب بل لأحبّ. الحبّ غاية في ذاته. لا نستطيع القول نفسه عن الحريّة، مثلاً، ولا عن الحقيقة، ولا عن الحياة حتّى، رغم قدسيّة الثلاث، ونقوله عن الحبّ. لا يميّز الحياة عن اللاحياة مثل الحبّ. ليس الجمال كقيمة مستقلّة هو ما نعشقه في الجميل، بل سلطته على تحريك الحبّ فينا. قدرته على رهننا به. المسيح جميل لا لأنّه صنع آيات، بل لأنّه آية في الحبّ. بلى، يتغذّى الكاتب من عشقه، ولا يقلّل ذلك من مجانيّة العشق. أكثر مَن أحببت هم أقلّ مَن أوحى لي أدبيّاً. أحببتهم حتّى نسيان كلّ شيءٍ آخر غير الحبّ.

■ ■ ■


الشعرُ توقٌ إلى الحبّ. الحبّ توقٌ إلى المزيد من الحبّ. المستحيل من الحبّ...

■ ■ ■


أن نقول: لا أحد يعرف الآخر مهما عايشه، أو: كلّنا متشابهون ولا نستحقّ التبحّر في معرفة أنفسنا، احتمالان، أيّهما نختار؟
الاحتمال الثاني لئيم. الأوّل متواضع ويحتفظ بإمكان الدهشة. كلاهما واقعي. كلاهما ناقص.
مَن لم يعد يعرفكَ الآن هل كان يعرفك قبل الآن؟ مَن ظنّ أنّه كان يعرفك هل يلقاكَ أنت نفسك راهناً؟
نتوقّف عند «نظرة الآخر» لأنّها تشترك في صناعة المنظور إليه. لا نَسْتَهِن بالنظرة. النظرةُ حكْم وإعادة خَلْق. على حَسَب الناظر طبعاً، وقد يصبح هذا ركناً من أركانك. الطائر يقيّم الريح كما أنّ الريح تقيّم الطائر، وما أدرانا مَن منهما رأيه هو الأشدّ تأثيراً. الريح تقولب الطائر كما يقولب الموج الأسماك، والترابُ الشجر. والعكس صحيح أيضاً. نظرةُ صاحبي إليّ قد تسمو بي فأسمو، وقد تحطّمني فأتحطّم.
اللعبةُ يتقرّر مصيرها في الضمير. وللضميرِ فجواتٌ يحسبها فضائل. لكنّ الضمير، مثل قوانين العدالة، يُحجّر المنظور. الضمير يسعى إلى التحنيط، يجهل تموّجات الشعور ومسيرات الأقدار. يحاكم الكتلة الناتئة ولا يعترف بالتفاصيل. يضعك في إطار ويسمّر الصورة على جدار الذاكرة. الضمير، إنْ لم يشعله الإلهام، كبيرُ الجلّادين.

■ ■ ■


نتبادل الجهل كما نتبادل، بدرجةٍ أخفّ، التأثير واحدنا في الآخر.
لا المعرفة ولا الجهل.
الغَبَش.

■ ■ ■


نتوقّف عند نظرة الآخر لأنّنا ضعفاء. وحسناً أنّنا ضعفاء. ليت الآخر يرانا كما نرى النجوم. ليته يرانا كما نتخيّل مَن نُحبّ.
نتوقّف عند نظرة الآخر لأنّنا نودّ لو نسيطر عليها، نتحكّم فيها، نبهرها، نديرها على هوانا، نَعْبد أنفسنا من خلالها.
أنتَ مسافر تحطّ في أَسْر النظرة. رفقاً أيّتها النظرة، اجعليه طيفَ ضيف، ولا تطبقي عليه جفون الألفة.