إلى أين تمضي الفنون العربية؟ وما الذي يؤخر حركة النقد عن أن تكون فاعلة في تجسيد العلاقة بين الفنون العربية ومثيلاتها في العالم؟ وهل ستذوب الطموحات النهضوية والهويات المحليّة في تيار العولمة الجارف؟ أسئلة يطرحها طلال معلا في كتابه «بؤس المعرفة ـــ في نقد الفنون البصرية العربية» (الهيئة العامة السورية للكتاب) في سياق المفاهيم البصرية الجديدة التي تعمل باطّراد على القطيعة مع المرجعيات القديمة بهدف بناء نسق مختلف بدلالات جديدة تضع اللغة في مقام العقل مصدراً للمعرفة. الحيرة تجاه هذه التحوّلات، واتساع رقعة الثورة المعلوماتية والدهشة الإلكترونية، وضعت التشكيل العربي في مهبّ أسئلة صارمة في ما يخصّ الوعي البصري، نظراً إلى غياب النظرية النقدية العربية المنجزة حيال مقترحات السرد البصري الراهن، «حيث يبدو العالم بأحداثه عرضاً يخاطب اللذة أو يقصيها، فكل شيء قابل للاستعراض: الخبر، الموت، العنف، الجنس، الجمال، للتعبير عن قلق وخواء مما هو غير متوقّع».
يشير الناقد والتشكيلي السوري إلى ضرورة أن نتأمّل المزاعم التي تتيحها تقنيات إنتاج الصورة التي تتنازعها «رصانة الهدف وجديّة تلمّس الواقع الحقيقي والبديل عنه»، وتالياً، التفكير في المتحقق أو المتطوّر من الذات الفنية العربية، سواء بالتطرّق إلى الأصول أو تجاوزها. حيال تقلّب المفاهيم الغائمة، لم يرق خطاب النقد الفني العربي في نصوصه المتاحة إلى تشكيل النموذج، وفقاً لما يراه طلال معلا، ما دام «لا يفرّق الرؤية عن الإبصار»، ومواجهة التحديات في استنباط لغة نقدية تتجاوز «الابتعاثات اللغوية المؤقتة» نحو التجريب لاستقصاء المغامرة العقلية لتجديد المعنى.
معضلة أخرى واجهتها الفنون المحلية، في تأكيد هويتها تحت ضربات المراكز المالية الدولية للتخطيط ووضع الاستراتيجيات التي تحكّمت بآليات الإنتاج الإبداعي وسخّرت رؤوس الأموال لتشكّل غطاءً فاعلاً للسوق الفنية، عبر تسيير توجهات الفنون المحلية نحو مراكز النخب الجديدة في الشرق والغرب. مهمة هذه المراكز وضع قواعد اللعبة الجديدة للتكتلات الثقافية والفنية التي «لا تعتمد على قوة الموروث وإنما قوة التدفقات المالية التي توجه الأسواق العالمية بما فيها أسواق الفن نحو مفاهيم جديدة في التنافس تحجب بصراعاتها إمكانات الاستقلال الثقافي المحلي». تحت بند «تغيير صورة العالم»، انسحبت من المشهد أسماء إبداعية مرموقة لمصلحة أخرى جديدة لا تمتلك تاريخاً فنيّاً، لكنّها انخرطت في لعبة السوق. لا يجد معلا حلّاً نقدياً لمواكبة ما يحدث، إلا عبر رصد أسباب هذا التكيّف مع آليات السوق، واستيعاب المعايير ما بعد الحداثية لمعنى الثقافة الموحّدة والسرديات البصرية التي تتحكم بها ميديا متطرفة، ويسأل: «أي زيف تمارسه فنون هذا العصر؟ وأي حقيقة يمكن القبض على جمرها في أحوال السلع الفنية المنتشرة، وأي تحولات باتت تطال النقد؟». قضايا شائكة كثيرة يواجهها الناقد اليوم، حيال الفنون البصرية العربية، وحيرته بين أطروحات ما بعد الكولونيالية، والمشروع القومي النهضوي، بالإضافة إلى الانقلابات الجذرية التي طرأت على الفنون.
ويجد في دعوات القطيعة مع التراث البصري العربي وإنكاره لتسويغ المنتج العربي الجديد «مزحة نقدية شديدة الهزء بالإبداع التصويري العربي» واستلاب بصري للمحترف الغربي بفجاجة، من دون أن ينكر الانقلاب الذهني واستحواذه على علاقة المبدع بأدواته، أو ما يسمّيه ريجيس دوبريه «الغفلة البصرية الجديدة» بتأكيده بطءَ الفن التشكيلي في مواجهة سرعة تدفّق المعلومات، وبلورة حالات الإلهام المعاصرة في فضاء من الحرية «لإعادة صياغة المفكك عبر التهكّم على المشاريع المرتبطة بحقيقة الأشياء والموجودات». لا ينكر طلال معلا أهمية الفنون الجديدة وشرعيتها، لكنه يرى أنّ «التحرر من الذاكرة» يحتاج إلى تأمل مخزونها الثري قبل «ولوج عالم الصمت المبجّل والمنقطع عن النظام الترابطي الذي كرّسه تاريخ الفن». ويستشهد باستفسارات الفيلسوف سامي أدهم: «ما الذي سيكون عليه الفرد في القرن الحادي والعشرين؟ وهل سيلغي مفهوم الجمال ويصبح كل شيء صنعياً؟»، ويتوقّف أخيراً عند معطيات «الثقافة الإلكترونية»، و«حقول البصر»، و«طاقة الفنون الفطرية المهدورة»، و«شهوة مزج الذاتي بالمرئي»، و«فضاء الجسد».