في كتابه الجديد «البؤس النهضوي ـــ مسائل ثقافية من زمن الهزيمة» (دار النهضة العربية)، يعرض خالد غزال عبر مجموعة دراسات وأبحاث معظم الإشكاليات الفكرية التي حالت دون ولوج العرب عصر الحداثة والتقدم أسوة ببقية شعوب العالم. إشكاليات يتداخل فيها السياسي بالديني والاجتماعي بالغيبي والثقافي بالسلطوي، ما يجعل مهمة تفكيك أسسها وتعرية عواملها، محاولة جادة للإجابة عن أسئلة التخلف والتراجع الحضاري. قصور العلاقة مع الغرب، ثقافة الموت الرائجة، ولاءات الجماهير المتبدلة، سطوة الرقابة، انتشار الخرافة، تراجع دور المثقف، جميعها طروحات أرهقت تاريخنا وظلت تلتف حول عنقه، حتى منينا بالعديد من الهزائم وغدونا خارج العصر، نعوض ما فاتنا بتنصيب أسامة بن لادن وأبو مصعب الزرقاوي ومنتظر الزيدي فرساناً لبؤسنا النهضوي.
«الفرسان الثلاثة» يجمع بينهم _ بحسب الباحث اللبناني _ أنّهم نتاج الخطة الأميركية في المنطقة العربية، كذلك فإنّهم تمثيل معاكس للأوهام التي زرعتها هذه الخطة حول المساعدة في نشر الديموقراطية في العالم العربي وإحلال حقوق الإنسان وتقويض الأنظمة الديكتاتورية. طالما أنّ مجتمعاتنا عاجزة عن تقديم البدائل في مواجهة السياسة الاستعمارية وتغيير الأنظمة من خلال القوى المحلية، سيظل هؤلاء الفرسان وغيرهم ممن تفرزهم مجتمعاتنا، ينعمون بالمجد والصعود. وهنا لا بد من الإشارة إلى أنّ معظم دراسات الكتاب أنجزت قبل اندلاع الثورات العربية، ما جعل القضايا المطروحة بعيدة عن سؤال الراهن واحتمالاته الشائكة.
يبدأ غزال كتابه بعرض أرقام تشير إلى تراجع كبير في حجم القراءة في العالم العربي وانحسار حركة التأليف والنشر والترجمة. وعبر اعتماده على أحد تقارير التنمية البشرية، يبيّن أنّ عدد الأميين في البلاد العربية وصل في عام 2009 إلى 70 مليون مواطن. انتشار الأمية بهذا العدد الضخم، يؤدي إلى نتائج اجتماعية وفكرية خطيرة، أولها سيادة الوثوقية بالسلطة التي تحتكر نشر الفكر، وخصوصاً سلطة رجال الدين. ويترتب على هذا الانقياد الأعمى نتائج عدة أخطرها التحول إلى الإرهاب والتطرف. الأمية المجدولة بالفكر الغيبي والخرافي تمثّل بحراً تغرف منه حركات التطرف والأصولية، وأرضاً خصبة لنمو الإرهاب المتعدد الوجوه. ويلفت غزال إلى أنّ دخول الثورة التكنولوجية إلى العالم العربي لم يغير شيئاً في واقع الأمية والجهل؛ فقد تعامل معها العرب بوصفها تقنيات حديثة، ورفضوا الأفكار التي أنتجتها.
صاحب «المجتمعات العربية المأزومة وإعاقات الحداثة المركبة» يجد لدى المجتمعات العربية قدرة «عجائبية» على تحويل الهزائم إلى انتصارات. حرب 1948 أو النكسة التي خسر فيها العرب فلسطين وقامت على أثرها دولة إسرائيل، ظلت بعيدة عن ملامسة أسبابها المتصلة بالتخلف العربي وبنى السلطة القائمة، التي كان الاستعمار قد مكّنها من الهيمنة بما يضمن مصالحه الاستراتيجية. كذلك إنّ تحويل أسباب الهزيمة إلى الخارج، ومعها تضخيم عامل خيانة الحكام العرب أسباب تحمل شيئاً من الحقيقة، لكنّها تحجب أيضاً العوامل البنيوية العربية وتخلفها، لكونها المسؤولة أولاً وأساساً عن الهزيمة.
ويشير الكاتب إلى أنّ النخب العربية المثقفة أدت دوراً في تبرير الهزيمة وأدلجة تفسيرات السلطة الرسمية، وعجزت عن البحث عن الأسباب الحقيقية للفشل، ونشرت وعياً زائفاً، مركزةً على دور العوامل الخارجية والمؤامرة على العرب والإسلام وتقاعس الاتحاد السوفياتي في عدم النجدة. ويعزو غزال هذا التجاهل المتعمد لفكرة الهزيمة عند العرب إلى عقلية موروثة من الزمن الجاهلي ولاحقاً من العصور الإسلامية لا تولي أهمية للنقد الذاتي.
يعرّج الباحث اللبناني في فصل لاحق على ما يسميه «ثالوث غير المقدس: تآمر، تخوين، تكفير»، مشيراً إلى أنّ هذا الثالوث يتغذى من جملة عوامل بنيوية تتصل بتكون المجتمعات العربية والأنظمة القائمة، إضافة إلى الأيديولوجيات السائدة والعصبيات المسيطرة التي تتقاطع عند غياب ثقافة الديموقراطية والاعتراف بالآخر.
ويخصص غزال بحثاً كاملاً عن ثقافة الموت وثقافة الحياة، ساخراً من المشهد الذي عرفته الساحة اللبنانية منذ سنوات، حيث وقفت قوى طائفية ادعت لنفسها تمثيل «ثقافة الحياة» في وجه مجموعات طائفية أخرى وسمتها بتقديس «ثقافة الموت». هكذا تحوّل الأمر إلى فولكلور اتسم غالباً بطابع كاريكاتوري. طرف يرفع شعار «أحب الحياة»، فيرد الآخر «أحبّ الحياة لكن بكرامة» لتمييز نفسه والدلالة على نمط الحياة التي يعشقها. ويفند الكاتب المداخل المتعددة التي تُنتَج من خلالها ثقافة الموت في مجتمعاتنا أبرزها المدارس الدينية حيث يستعير المدرسون والمشرفون على البرامج الدينية آيات الجهاد والعنف الواردة في النص الديني ويلقنونها للطلبة، فيصبح هؤلاء الصغار على استعداد للموت في سبيل تحقيق «أهداف إلهية».
في فصل آخر، يتساءل صاحب «وجهاً لوجه مع الفكر الأصولي» عن ولاءات الجماهير العربية التي تتبدل تبعاً للمرحلة. الشعوب التي كانت ترفع لواء المشروع القومي العربي في الخمسينيات، صارت تميل في المرحلة الراهنة إلى الحركات الأصولية ذات الطابع الإسلامي والعصبيات الطائفية والبنى العشائرية. كذلك يخصص بحثاً عن علاقة العالم العربي بالغرب، عارضاً الصور السلبية المتبادلة بين الطرفين التي نشأت في سياق تاريخي صراعي، مقترحاً علاقة تبادلية مركبة مع الدول الغربية نحدّد عبرها مواقع الاختلاف ومواطن الصراع المستمر، ونعيّن في المقابل الحاجة إلى العلاقة الإيجابية بالغرب وعلومه وحضارته.
وبعد أن يعرض عبر فصلين منفصلين أثر الرقابة السياسية والاجتماعية والدينية والذاتية في بلدان الوطن العربي، ويبيّن خطورة انتشار الخرافة والغيبيات واختراقها مناخ السياسة والثقافة والإعلام، يختم غزال كتابه ببحث عن دور المثقف الذي تراجع ولم يعد فاعلاً اجتماعياً وسياسياً. ويضع هذا التراجع في سياق انهيار منظومات اليسار الجديد في السبعينيات وسقوط الاتحاد السوفياتي، وانكشاف بؤس الفكر القومي، داعياً إلى ولادة مثقف جديد يلتزم قضايا الديموقراطية والعلمانية والعقلانية ويتخفّف من دور «رسولي» كان يراه في ذاته.
كتاب «البؤس النهضوي ـــ مسائل ثقافية من زمن الهزيمة» لا يقدّم جديداً بما يخص الإشكاليات التي يطرحها. لكنّ التذكير بقضايا شائكة سبّبت هزيمتنا أمام أنفسنا وأمام الغير، يبدو أمراً ملحّاً في هذه اللحظة المصيرية التي تشهدها بلداننا، وخصوصاً أنّنا نخشى استمرار الهزيمة عبر أنظمة سياسية جديدة تنشغل بالفتاوى والتشريعات السلفية.