ينطلق برنامج «دفاتر يومية: شهر السينما اللبنانية» مع «قطاع صفر» الوثائقي الأول لنديم مشلاوي («الأخبار» 2/4/2012) . اختار مشلاوي هنا أن يقرأ تاريخ بيروت ولبنان، انطلاقاً من الكرنتينا. صوِّر الفيلم في المنطقة، حيث تتوزع المشاهد بين المحجر الصحي، والمسلخ، والدباغة... وعلى خط مواز، يتقاطع الفيلم مع مقابلات مصوّرة مع شخصيات من مجالات مختلفة، كالمهندس برنار خوري، والكاتب حازم صاغية، واختصاصي علم النفس العيادي شوقي عازوري... في «قطاع صفر»، يظهر جلياً التوجه في اللغة المطروحة والنضج السينمائي لنديم مشلاوي. عمل يحمل بحثاً عميقاً، ولغة سينمائية مميزة وجمالية عالية. ينطلق الشريط من الحجر الصحي، تلك المساحة المعزولة عن المدينة التي كانت مخصّصة لاستقبال المسافرين قبل دخولهم بيروت، خوفاً من أن ينقلوا داءً حملوه معهم إلى المدينة. المخرج سوف ينقلنا رويداً من المكان الذي يحمي المدينة من الداء إلى قراءة لداء المدينة الذي تكمن مفاتيحه في الكرنتينا.

تلك المنطقة المعزولة كانت على مر تاريخ لبنان الحديث، ملجأً للأقليات مثل «عرب المسلخ»، والارمن، والفلسطينيين، والأكراد، والتجار من تركيا، والأردن، والعراق. وبذلك، مثّلت صورة مصغّرة عن نسيج المدينة، وعلاقاتها، وتعقيداتها.
منذ البداية، يقودنا حازم صاغية إلى قراءة مصطلح «عرب المسلخ» الذين سكنوا المنطقة عبر إجراء مقارنة بين التمجيد المرافق للفظة «عرب» في اللغة الفصحى وبين استعمالها في اللهجة الشفهية بطريقة محمّلة ببعد سلبي وتحقيري. أطلق أهل المنطقة على الآتين للعمل في المسلخ مصطلح «عرب المسلخ» الذي يدلّ على عدم قبول الآخر. أما عازوري، فينطلق من تشبيه الإنسان ومخاوفه النفسية بالمدينة. الإنسان يحارب مخاوفه عبر إبعادها أو كبتها مثل رغبته في القتل التي تعدّ من المحرّمات. كذلك تفعل المدينة التي تعزل مخاوفها من الغرباء كي لا تقتلهم، كما عزلت بيروت وأهلها الأقليات في الكرنتينا. لكن ذلك المحرّم الذي يشبه جميع المحرمات التي ترافقها رغبة دفينة بكسرها، ترجم في تاريخ الكرنتينا عبر المجازر التي ارتكبت خلال الحروب بين الكتائب اللبنانية، والفلسطينيين، والأقليات الأخرى. لا حضور للإنسان في الصورة إلا في المشاهد المأخوذة من الأرشيف. أما شريط الصورة في الفيلم، فيظهر المكان، أي الكرنتينا، خاليةً من البشر. كأن المخرج أراد أن يصوّر الحجر الشاهد على ذلك التاريخ، والسينوغرافيا التي اختارتها المدينة وعزلت فيها الاقليات، والغرباء، والداء. صحيح أنّ «قطاع صفر» يتضمن منحى توجيهياً، لكنّه يبقى مهماً عبر طرحه قراءات لتاريخ لبنان الحديث مختلفة عما اعتدناها، ويحاول مقاربة أسئلة على صعيد وطن يدعى لبنان، انطلاقاً من مساحة صغيرة تقع على هامش عاصمته.