القاهرة | على طريقة الشعراء، يستلهم يسري نصر الله أعماله الكبرى من تفصيلات شديدة البساطة: استلهم فيلمه «جنينة الأسماك» ( 2008) من معلومة عابرة حول ذاكرة السمك قرأها في مجلة أطفال. أما فيلمه الجديد «بعد الموقعة» الذي يشارك في مسابقة «كان» الرسمية، فيتأسس على تفصيلة صغيرة في مشهد كبير: وجوه راكبي الجمال في المواجهة الشهيرة باسم «موقعة الجمل» التي حسمت رحيل مبارك. سيتذكر السينمائي المصري ذلك، وهو يخطو خطوته الأولى على البساط (الرسمي) لمهرجان «كان» بعد خطوتين فقط ليوسف شاهين في «وداعاً بونابرت» (1987)، و«المصير» (1997). اليوم ينفرد يسري بحمل إرث أستاذه، وينفصل عنه في اللحظة ذاتها. لم يعد التلميذ تلميذاً بل صار أحد مشاركين محدودين للسينما المصرية في المسابقات الرسمية الكبرى، ولم يبق له إلا الخطوة الأخيرة: الفوز بجائزة.هي المصادفة التي جمعت بين منطقة نزلة السمان، موطن راكبي الجمال، وبين باسم السمرة، الممثل المفضّل ليسري نصر الله والأكثر مشاركةً في أفلامه. نشأ باسم في المنطقة الشهيرة الملاصقة لأهرامات الجيزة التي تعيش على تأجير الخيول والجمال للسياح، ومنها جاءت مجموعة الخيالة التي منحت للمواجهة مع الثوار اسمها وشكلها العجيب. قوم فقراء يعيشون يوماً بيوم، انقطع رزقهم مع توقف السياحة أثناء الثورة، فكان سهلاً حشدهم ضد «أعداء الاستقرار». كان صاحب «مرسيدس» (1993) يجري عملية المونتاج لفيلمه القصير «داخلي/ خارجي» الذي ضمه الشريط الطويل «18 يوماً» مع 9 أفلام أخرى. دار فيلم يسري حول زوجة شابة، منى زكي، تشاهد موقعة الجمل عبر التلفزيون، فتقهر خوفها وتقرر النزول إلى الميدان. أثناء المونتاج، لاحظ يسري أنّ راكبي الجمال دخلوا الميدان بحيواناتهم ـ أدوات رزقهم ـ وبلا سلاح سوى أدوات عملهم من عصي وأسواط. لقد جرى استخدامهم ــ كما يحكي أثناء محاضرة في معهد السينما ــ للتغطية على المجرمين الحقيقيين من القناصة. هنا قرر أن يكون أولئك أساس فيلمه الجديد.
في «بعد الموقعة» نتعرف إلى أحدهم محمود (باسم السمرة) وزوجته فاطمة (ناهد السباعي) وهما أبوان لطفلين. نرى كيف يصنع الفقر والجهل والحاجة من عمال يوميين وحوشاً ظنت أنها تدافع عن الوطن. في نزلة السمان، يكتسب الفيلم السمة التسجيلية أيضاً. يصوّر يسري أهل المنطقة ويستمع إليهم كمخدوعين أفزعهم ما تحولوا إليه. كعادته في التجريب، لم يكتب يسري من الفيلم إلا أقل من نصفه (بالمشاركة مع عمر شامة)، تاركاً نصف مساحة السيناريو خالية لما يفاجئه به التسجيل والتوثيق. مزج الدراما بالتوثيق كان الوسيلة التي ارتآها لتناول ثورة لم تنته بعد، وحدث لن يكتمل قريباً.
لكن الجمّال محمود وزوجته فاطمة هما اثنان من ثلاث شخصيات رئيسية يفصح عنها الاسم السابق للفيلم «ريم، محمود وفاطمة». أما الثالثة ريم (منة شلبي) فلا تنتمي إلى الثورة ولا إلى الثورة المضادة. جاءت من أرضية برجوازية، تعمل في شركة دعاية وإعلان. يقف الكومبارس يلقنون أنفسهم الجمل التي سيرددونها أمام الكاميرا، بدلاً من الاستعانة بمواطنين طبيعيين. والأسوأ أنّ الدعاية تصوّر لصالح حملة توعية. في لحظة تنوير، تدرك ريم زيف المشهد، فتقرّر «النزول إلى الشارع» الذي لم يكن إلا الميدان. هناك تكتشف أن عليها أن تتعرف إلى وطنها من جديد.
تتقاطع الشخصيات ويجمعها الميدان من زوايا مختلفة، ويجمع آخرين منهم ناشطة سياسية (سلوى محمد علي) وناشطة أخرى لكن في مجال الرفق بالحيوان (فيدرا). تقاطعات تبررها «الموقعة» التي جمعت البشر بالخيول والجمال، الفقراء بالأغنياء، المتعلمين بالأميين وشباب الثورة بشيوخها.
إذًا، ها هي السيرة اللافتة لصاحب «باب الشمس» تتوج اليوم بالتنافس ضمن 20 فيلماً فقط في المسابقة الرسمية للمهرجان السينمائي الأشهر، بعد أكثر من ربع قرن على مشاركته في «أسبوعي المخرجين» بفيلمه «سرقات صيفية». لذا لم يكن غريباً فور إعلان قائمة أفلام المسابقة الرسمية، أن يوجّه يسري التحية عبر تويتر إلى شركائه في الإنجاز وهم: عمر شامة شريكاً في السيناريو، تامر كروان (موسيقى)، منى ربيع وزياد حواس (مونتاج)، سمير بهزان وضياء جاويش (تصوير)، محمد عطية (ديكور)، ناهد نصر الله (ملابس)، إبراهيم دسوقي (صوت)، وائل مندور، دينا حمزة، عمر الزهيري ومنى أسعد (مساعدو إخراج)، أمل الحامولي (المشرفة على الإنتاج)، أحمد البدوي (المنتج الفني)، والشركة المنتجة «نيوسنتشري».