بالصحراء يفتتح فيرنر هيرتزوغ جديده «ملكة الصحراء» (2015 ــ 128 د.). السينمائي الألماني (1942) يصوّرها كائناً نابضاً بالجمال والغرابة والوحشة. ركّاب الجمال أشباح مشلوحة في العمق. ذرّات الرمل المتطاير تزيد المكان رهبةً. الصمت يبثّ التوجّس والفضول في آن واحد. هيرتزوغ ليس غريباً عن مناخات كهذه. تنقّل في صغره بين جنوب السودان وأسوان، إذ أصيب بحمّى غامضة في أثناء بناء السد العالي. في السينما، كثيراً ما صوّر الكثبان الصفراء كما في «سراب» (1971)، من بين أماكن متطرفة أخرى. مغامرة «فيتزجيرالدو» (1982) الشهيرة وسط الأدغال، تكفي عمراً بحاله. هيرتزوغ أحد أبطال «السينما الألمانية الجديدة» التي ظهرت بداية السبعينيات، إلى جانب كل من ألكسندر كلوجه، وفيرنر فاسبندر، وفولكر شلوندورف، وفيم فيندرز ومارغريتا فون تروتا. هؤلاء اقترحوا رؤى مغايرة تنتصر لموقف الصانع من الإنسان والكون. خلخلوا بنى المجتمع ببحث نقدي غير مهادن. انتشلوا سينما بلادهم من الركود، معيدين عقارب الساعة إلى أمجاد المدرسة التعبيريّة الألمانيّة، التي توهّجت في خلال العشرينيات على أيدي روّاد مثل فريتز لانغ وإريك فون ستروهايم. هيرتزوغ معروف بالحلول المجنونة في أفلامه. حقق الكثير في الوثائقي والروائي، كاتباً سجلاً لافتاً من الجوائز والعناوين. هكذا، يعود إلى الميدان الروائي بعد 6 سنوات على «يا بني، يا بني، ماذا فعلت؟». يلاحق سيرة الرحّالة والمستكشفة واللغوية والمستشرقة والكاتبة والمهتمّة بالآثار والسياسيّة البريطانيّة غيرترود بيل (1868 – 1926)، التي تلعبها نيكول كيدمان. هي ساحرة قلوب، قويّة الشخصيّة مع ثقة راسخة بالنفس والقدرات. ثابتة المسعى نحو أهدافها، ولو رافقها الخطر والمشقّة: «لا أحد يستدعيني. أنا أرسم قدري بنفسي». مع ذلك، يخبّئ لها الغيب انكسارين عاطفيين. الدبلوماسي الشاب هنري كادوغان (جايمس فرانكو) لن يغادر فؤادها بسهولة. القنصل البريطاني في دمشق تشارلز داوتي وايلي (داميان لويس) يسرق حصاناً من أجلها، قبل أن تبتلعه الحرب العالمية الأولى. الجفاف الداخلي يزيدها تركيزاً على الحياة العملية. بيل مسحورة بعمر الخيّام والشرق الأوسط، الذي يستعد لما بعد الإمبراطوريّة العثمانية بداية القرن الفائت. البدو خلّابون، غامضون، يجذبونها بـ «حريتهم وكرامتهم وأشعارهم». شيخ الدروز جنوب سوريا يعرف فيرجيل وبودلير، ويهوى الشانزليزيه في باريس. خلال دقائق، ينسف صورة التوحّش والعنف الشائعة عن بني قومه لدى الإنكليز. فهمهم لدفاع أصحاب الأرض عنها على أنّه عنف، مشكلة قائمة منذ ذلك الحين. الصحراء مناسبة للعزلة والتحرّر والسكينة، ما يلائم قلب بيل المكلوم. تفهّم العرب واحترامهم دفعهم إلى احتوائها وإدخالها خيمهم وبيوتهم الطينيّة، حتى أنّهم لقبوها بـ «خاتون» (السيّدة النبيلة) و«صانعة الملوك» و«الملكة غير المتوّجة للصحراء». ولكن مهلاً، لمعان الرمال لا يعني الذهب دائماً. اتفاقية «سايكس ـ بيكو» السيئة الذكر تفتتح الشريط. الغرب لا يريد لهذه الشعوب أن تصنع قدرها بنفسها. غيرترود جزء من ذلك. تكرّر أنّها ليست جاسوسةً لأحد، إلا أنّ كل أفعالها ومناصبها تقول العكس. لا مانع من الجمع بين الهوس الشخصي ومصلحة المملكة. كذلك، يمكن تبيّن تلك السذاجة الاستشراقيّة في بعض اللحظات. النظرة الفوقيّة الوصائيّة أمر بديهي، ولو كانت مغلَّفةً بالودّ والتفهّم. ماذا يعرف العرب عن التطوّر والحضارة؟ لنمنّ عليهم ببعض شذراتها، مع ابتسامة أبوية على الوجه.
درامياً، الفيلم كارثي. باهت هو تفاعل بيل مع الذات، والمحيط، والهدف العام. شخصية أحادية، تائهة غالباً. تلوّنها لا يبني شيئاً، عندما يخطر لها ذلك. الانتقال بين طهران وعمّان ودمشق والقاهرة وحائل والبتراء لا ينتشل دفّة الدراما الحائرة. ثمّة رتابة قاتلة على طول الخط. كيدمان التي تظهر في كلّ مشهد من الشريط عدا الافتتاح بأداء لافت، تحاول عبثاً تغطية العيوب العديدة في السيناريو والإيقاع. السوري جهاد عبدو (جاي عبدو) يلعب الدليل «فتّوح»، مفتتحاً مشاركاته الكبيرة في هوليوود. يحاول التلوين والاقتراح على الشخصيّة، إلا أنّه لا يقترب من عمر الشريف في «لورنس العرب» (1962) لديفيد لين أو مواطنه غسان مسعود في «مملكة الجنّة» (2005) لريدلي سكوت أو عمرو واكد في «صيد السلمون في اليمن» (2011) للاسي هولستروم و«لوسي» (2014) للوك بوسون. نترقّبه قريباً في «وصيّة لأجل الملك» لتوم تايكوير مع توم هانكس. على ذكر لورنس العرب، يظهر هنا بأداء مضحك لروبرت باتنسون. حتى ونستون تشرشل (وزير المستعمرات آنذاك)، يلعبه كريستوفر فولفورد بأسلوب كاريكاتوري هزيل. المقارنة مع شريط ديفيد لين قائمة بالتأكيد، إلا أنّ الكفّة راجحة بقوّة للأخير. على عكس المعتاد، فيرنر هيرتزوغ لم ينجح مع الصحراء هذه المرّة. ربّما عليه أن يأكل حذاءه كما فعل ذات مرّة.
Queen of the Desert: صالات «غراند سينما» (01/209109)، «أمبير» (1269)