عام 2008، دعا «ليبان جاز» عازف الترومبت الإيطالي باولو فريزو (1961) وفرقته لتقديم أمسية في ختام الموسم. آنذاك، مثّل الموعد حدثاً استثنائياً في بيروت، خصوصاً أنّ المهرجان وقع أحياناً في مطبّ حشْر فنانين من خارج عالم الجاز تحت رايته. تتالت المواعيد دورياً، فوقع خيار المنظّمين (كريم غطّاس) في بداية موسم 2011 على عازف الساكسوفون الإيطالي ستيفانو دي باتيستا (1969). منذ تلك الأمسية الجميلة، توقف «ليبان جاز» عند محطاتٍ قيّمة وأخرى عادية، ثم افتتح الموسم مع فرقة The Wailers الجمايكية التي تحتلّ قمّة موسيقى الريغي لكنّها لا تندرج في خانة الجاز. الليلة، نعود إلى الجاز مع أمسية تجمع رمزَيْ جيلهما في أوروبا بأقل تقدير، ستيفانو دي باتيستا (من روما) وباولو فريزو (من جزيرة سردينيا).
في الولايات المتحدة قديماً، كان الجمهور، وحتى موسيقيّو الجاز، يفرّقون بين «الجاز الأسود» و«الجاز الأبيض»، باعتبار أنّ الرجل الأبيض دخيل على هذا النمط. تلاشى هذا التمييز مع صعود عمالقة قدّموا مساهمة لا يمكن تهميشها. منذ حقبة السوينغ حتى أواخر القرن الماضي؛ هل يمكن عدم الاعتراف بأمثال غلان ميلر، وبيني غودمان، وبيل إفنز، وتشت بايكر وستان غتس؟ من جهة أخرى، عرف الجاز أيضاً تمييزاً بين هويته الأميركية وتلك الأوروبية (أو غير الأميركية)، لكنّ ذلك تبدَّد أيضاً مع الوقت. من هذا المنطلق، يمكن القول إن انتشار ثقافة الجاز بين الجمهور عالمياً، وإتقان قواعده مِن قبَل موسيقيين من شتى الجنسيات، ساهما في ولادة شخصيات مهمة في معيار جماليّ جازيّ عام، وليس نسبة إلى الجغرافيا أو الثقافة التي ترتبط بها هذه الشخصيات. هذا ما ينطبق على دي باتيستا وفريزو وغيرهما. في الأمسية التي قدّمها الأول في لبنان، شاهدنا عازفاً يليق به لقب «رجل الجاز» (Jazzman)، من خلال مؤلفاته كما عبر تقديمه كلاسيكيات تشارلي باركر وديزي غيلسبي وجون كولتراين. وعلى هذا المستوى من الإتقان، يقف مواطنه باولو فريزو إذا استندنا إلى تسجيلاته فقط.
إذاً، إنه لقاء قمة يجمع في «ميوزكهول» باولو فريزو (ترومبت) وسيفانو دي باتيستا (سوبرانو وآلتو ساكس)، في تركيبة سداسية خاصة بهذا المشروع (يرافقهما أربعة موسيقيّين). صحيح أنّه يستحيل إعادة إنتاج الماضي وفرادة أجوائه، ومن الصعب تخطّي عبقرية بعض تجارب جاز الخمسينيات. لكن دعونا نحلم قليلاً: اللقاء المرتقب بين دي باتيستا وفريزو يذكّر إلى حدٍ ما باللحظات التي كانت تجمع قبل أكثر من نصف قرن عملاقيْن تربطهما زمالة مماثلة (من حيث النمط والآلات) هما تشارلي باركر (ساكسوفون) وديزي غيلسبي (ترومبت). حتى إنّ التفاعل الحيّ مع الفنانيْن الإيطاليَّيْن، قد يثير فينا مشاعر جميلة أقوى من تأثير أرشيف باركر/ غيلسبي، مع أنه لا يتخطاه قيمةً. في هذا السياق، يجب الإشارة إلى أن هذه المقاربة تصحّ من ناحية ستيفانو أكثر مما تتناسب مع باولو. الأول شديد التأثر بتشارلي باركر (وبحقبته)، وقد خصص له تحية من خلال ألبوم كامل، في حين أن الثاني أقرب نَفَساً وأسلوباً من تشت بايكر منه إلى ديزي غيلسبي الذي لا يشبهه أحدٌ ممّن تلوه.
من جهة ثانية، تقدّم لنا الأمسية كما افتتاح موسم 2012 مع الريغي، الفرصة المثالية لتناول نقطة مهمة متعلّقة بمستقبل «ليبان جاز». بدأ المهرجان نشاطه قبل ثماني سنوات. استضاف رجال الجاز من مختلف الجنسيات والأنماط. لكنه همَّش الجاز الأميركي (مع استثناءات قليلة)، خصوصاً في السنوات الأخيرة التي أثبت خلالها أنه قِبلة الجاز الأوروبي. وعندما نقول «أوروبي» في «ليبان جاز»، نقصد أولاً الفرنسي أو الفرنكوفوني، ثم الاسكندينافي والإيطالي. واليوم، يتكرَّر اسمان في أمسية واحدة. وهذه المسألة قد تتكرر هي الأخرى أيضاً، بسبب لائحة الأسماء الأوروبية المحدودة، أقله تلك التي تتمتع بالمستوى اللائق. كل ذلك، يضع المنظّمين أمام خيار وحيد هو فتح قنوات على الجاز الأميركي، ما يقيهم مستقبلاً حلّ «جوائز الترضية» المتمثّل في التكرار حيناً وبالأمسيات الهجينة أحياناً. «الحل الأميركي» لن يكون سهلاً بالتأكيد. المنافسون كثر، ومعظمهم أكثر ملاءمة من «ليبان جاز» («مهرجان الجاز في بيروت» من تنظيم «سوليدير»، ومهرجانات «بعلبك»، و«بيت الدين» و«بيبلوس»). ثمة حل ثانٍ مؤقت هو طرق باب «معهد غوته» في لبنان. فالجاز الألماني المعاصر غنيّ، ومعظم رموزه يأتون إلى بيروت من دون ضجة تذكر، والتعاون مع خبير في الدعاية والتسويق الفني مثل كريم غطّاس من شأنه أن يفيد الفرق المستهدفة و«ليبان جاز» وجمهوره... لكنه سيحرم أصحاب الدخل المحدود من الاستمتاع بمزيد من الأمسيات التي أتيحت مجاناً في السابق!

أمسية باولو فريزو وستيفانو دي باتيستا: 9:00 مساء اليوم ـــ «ميوزكهول» (ستاركو ـــ بيروت) ـــ للاستعلام:01/361236



نشاط «مفرط»

يجد المهتمّون بباولو فريزو صعوبة جدّية في متابعة نشاطه المسجَّل. عازف الترومبت والمؤلف الإيطالي البالغ من العمر 51 عاماً يتميَّز بغزارة إنتاجية قلّ نظيرها تاريخياً. أصدر عشرات الألبومات التي تحمل اسمه، أو التي يرد فيها اسمه عازفاً إلى جانب آخرين. منذ مطلع السنة الماضية (وحتى كتابة هذه السطور!) أصدر وشارك في 16 ألبوماً!