في كتابه «حرية الإنسان في الإسلام» (دار الساقي ــــ مراجعة وتعليق محمد العاني ـــ 2012)، يتحرى الكاتب السوداني محمد أبو القاسم حاج حمد حرية المسلم في دينه وعلاقة ذلك بالتشريع. الكتاب الذي راجعه وقدّم له محمد العاني هو الخامس من مؤلفات الكاتب التي صدرت بعد وفاته في عام 2004. بطوباوية شديدة، يطرح حاج حمد فكرة كتابه الجوهرية، ويحاول برهنتها: مركزية الإنسان الواعي في استقلاله وسيادته لنفسه، لا تتعارض مع الحرية في الإسلام. يقارن صاحب «الحاكمية» بين الاتجاهات الليبرالية والاشتراكية، وبين الرؤية القرآنية لمفهوم الحرية. يخلص إلى أنّ المعنى الروحي للحرية يتخطى حدود الفردية (الفردانية) ليصل إلى المعرفة الكونية القائمة على وعي المسلم لذاته والكون المحيط به.
يكشف الكاتب عن فكرة جنينية في بحثه، تتمثل في أنّ الإنسانوية هي باب الحرية في الإسلام.

على هذه القاعدة، ينسج صاحب «جذور المأزق الأصولي» نسقاً واحداً يتراكم فيه التفاكر (استيلاد الأفكار) بالمعنى القرآني، مبتعداً عن صراع الأضداد كما هي الحال في العقل الغربي. وبصرف النظر عن أهمية هذه الفكرة وابتعادها الشديد عن الواقع، يحاول الكاتب قدر المستطاع تسليط الضوء على مقومات «الحريّة المعرفيّة الكونيّة» في الإسلام، انطلاقاً من معركة العقل الحر المنفتح على الآخر.
ينقد حاج حمد بعض المدارس والاتجاهات الفكرية الغربية التي تنفي حرية الإنسان في الإسلام. ويقول إن ادّعاء الغرب ليس سوى تصوّر خاطئ لأزمة ترتبط بـ«الثيوقراطية اللاهوتية» عند السلفيين والأصوليين. هؤلاء يحتكرون النطق باسم المقدس ويعطّلون الإبداع بكل أطيافه.
الإبداع جزء لا يتجزأ من الحرية. وأهمية هذا الطرح الذي تقدم به صاحب «القرآن والمتغيرات الاجتماعية والتاريخية» يحيلنا إلى الوثيقة الثالثة للأزهر التي أشارت إلى معطيَين مهمين: تنشئة الأجيال الجديدة على ثقافة احترام الآخرين، ودعم الإبداع العلمي والأدبي والفني.
يخوض الكاتب معارك متعددة في بحثه. من جهة، هو يُعيد الحرية في الإسلام إلى جذورها القرآنية إيماناً منه «بقدرات الوعي لدى الإنسان»، ومن جهة أخرى يموضع «الحرية» انطلاقاً من التمايز الإسلامي عن الفهم الليبرالي والاشتراكي.
يستخدم الكاتب مصطلح «الإمام» للدلالة على «القرآن». تأتي هذه الاستعارة من باب إسقاط الوساطة بين المسلم والخطاب القرآني المتعالي، بمعنى أنّه يتجاوز الأطر التقليدية من أجل التأسيس لدين الفرد. وفي خلاصته هذه، يلاقي إلى حدّ ما الشاعر أدونيس الذي يرى أنّ «الإسلام دين الفرد، والمجتمع يتكون من أفراد متدينين بوصفهم أفراداً، لا بوصفهم ينتمون إلى طائفة أو إثنية معينة». الخلاصة الأخيرة لا يدرسها صاحب «تشريعات العائلة في الإسلام» بالنحو المطلوب. ربما لأنه تخوّف من الخوض فيها، أو أنه فضّل التريث قبل إطلاق العنان لمركزية الإنسان الحر والواعي.
يعطي الكاتب «البعد الروحي للحرية في الإسلام» مساحة كبيرة في بحثه. وهنا، يستخدم حاج حمد المعيار الروحي في معالجة علاقة المسلم مع مجاله الخاص والعام. نجده، على سبيل المثال، يقارب بين الرابطة العائلية والزواج، ليس على أسس الاقتران العضوي ـــــ الجنسي، بل من خلال الانتماء والودّ والسكن. وعلى هذا، يمكن فهم مدلول الآية القرآنية «وإذا النفوس زوجت».
إشكالية مهمة لم يُجب عنها الكاتب: هل الحرية في الإسلام القرآني أكثر رحابة من الإسلام الفقهي؟ برأينا أنّ القرآن بنصه الروحي قد فتح باب الحرية على مصراعيه، لكن الفقه التقليدي قيّد الحريات وحاصرها ومارس لعبة مزدوجة: الإباحة المشروطة والمنع.
تطغى على أفكار الكتاب «كثافة التجريد». يقارب مؤسس مجلة «الاتجاه» الصراع الطبقي في المجتمعات الغربية من زاوية تبسيطية بسبب نزعته الإنسانوية ـــــ الإسلامية. وهدفه من هذه المقاربة هو رفع قيمة الإنسان وحرياته، إلاّ أنه وقع في خطأ منهجي ثنائي: المزاوجة بين الخطاب المقدس المتعالي والواقع، والاختلاف البيّن بين الإدراك الغربي والإدراك العربي لتركيبة المجتمع وفهمه. يضع حاج حمد الإنسانَ في صلب مفهوم الحرية. ويؤكد أن الإسلام دين منفتح على الأديان والأقوام، على «عكس إله العبرانيين العنيف والدموي والإقصائي».
يرفض صاحب «إبستمولوجية المعرفة الكونية» وجود التنظيمات الإسلامية. يقول: «ليس في الإسلام تنظيمات يمكن أن تطلق على نفسها هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وليس في الإسلام تنظيمات سياسية لها قيادة متميزة عن المسلمين». يستعين بمفهوم «النفر ـــ القدوة» لدحض التأويل «الباطل» لمعنى الآية: «وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» الواردة في سورة آل عمران. ويطالب بتخطي الإيديولوجية التاريخية، أو ما يمكن أن نسميه «المصادرة الفقهية» التي عطلت مقاصد النص القرآني. يرى أن المفسّرين الكلاسيكيين تأثروا بالبيئة الفكرية المحيطة بهم، ويدعو إلى بلورة ثقافة أخرى قادرة على استنطاق النصوص. وفي هذا السياق، يستشهد الكاتب بالآيتين 31ـــ32 من سورة «فاطر» بغية توضيح أهمية الحرية المعرفية التي تتغير «بتغاير العصور»، أي إنه يموضع الحرية في إطار الفهم الحداثوي الذي أقره النصّ المقدس.
إشكاليتان لم يتطرق إليهما الكاتب: كيف نظرت التجربة الإسلامية إبان مرحلة إشعاعها الحضاري إلى الآخر الديني والسياسي؟ وكيف يمكن التأسيس لمفهوم الحرية بمعناه الإسلامي من دون التطرق إلى المسوغات الفقهية التي قسمت العالم إلى مؤمنين وكافرين أو دار الحرب ودار الإسلام؟ لو كان حمد ما زال حياً في أوج ما يسمى «الربيع العربي» لربما عمل على وضع الحراك الشعبي العربي في صلب دراسته، وتطرق إلى مسألة التعددية المطروحة اليوم بقوة بعد وصول الإسلاميين إلى الحكم في أكثر من بلد عربي.
ورغم أنّ الكتاب ينزع إلى التجريد والطوباوية، وأنّ الكاتب الراحل استند إلى الحيز النظري أكثر منه إلى التجارب التاريخية، وخصوصاً حين قارب بين الفهم القرآني للحرية والفهم الغربي، إلا أن هذا لا ينفي توافر أفكار جنينية في «حرية الإنسان في الإسلام»، ولا سيما عندما يولي الوعي الإنساني الحر دوراً مهمّاً في معركة الحرية.