بغداد | كل ما يجري اليوم في بغداد هو ابن الجنون والفوضى اللذين يتلبّسان الحياة في هذه البلاد: شكل الشوارع المتهالكة، وفوضى العمارة، والعسكر الذين يطبقون على أنفاس الناس، والسأم العام الذي يغطي وجوه الملايين. ومن هذا الجنون أن يواجه شباب طامح بواقع آخر غير الذي نحياه موجةً ظلاميةً تعيدنا إلى القرون الوسطى بحقّ. شباب يتعرّضون كل يوم لهذا العنف والتنكيل وقوائم الوعيد بتصفيتهم في أقرب فرصة إن لم يظهروا رجولتهم بشكل كامل!
وكان الفصل الأخير من هذا الواقع المؤلم المجزرة التي تعرّض لها شباب الـ«إيمو» قبل أسابيع بعدما قتلوا رجماً («الأخبار»، عدد 10/3/2012) والاضطهاد اللاحق بفناني الراب، ومثليّي الجنس والآخرين الذين «يلبسون ملابس غريبة وضيقة عليها رسوم مثل جماجم، ويستخدمون أدوات مدرسية على شكل جماجم، ويضعون أقراطاً في أنوفهم، وألسنتهم وغيرها من المظاهرة الغريبة» بحسب بيان وزارة الداخلية العراقية الذي صدر قبل المجزرة الشهيرة ليشكّل تحريضاً مباشراً على هؤلاء الشباب. والمحصلة حملة ظلامية لم يسبق لها مثيل، ومصادرة للحريات، وتصفية الشباب في بلاد الرافدين. وها هو الأمر يتطوّر ليطاول ملاحقة كل مَن يضيء على معاناة هؤلاء في وسائل الإعلام، مثلما حصل مع فريق قناة «روسيا اليوم» أمس في بغداد.
وعلى الرغم من محاولات السلطة في بغداد النأي بنفسها عن الموضوع، وأن تظهر في مظهر الحامي للحريات، إلا أنّ ذلك لم ينفع كونها هي التي أجّجت هذه الأزمة برمّتها من خلال بيان وزارة الداخلية الذي يفيد بأنّها «تشن حملة للقضاء على الإيمو أو عبدة الشيطان».
لكن مع تزايد الضغوط والاحتجاج المدني والإعلامي على انتهاك الحريات، ضاع دم الشباب المسفوح بين قبائل المسلحين ورجالات وزارة الداخلية، إلى درجة أن هذا الأمر أثار حفيظة وسائل إعلام كثيرة ذكّرت الأجهزة الأمنية بتصريحاتها، وخصوصاً ما قاله مدير الشرطة المجتمعية مشتاق طالب المحمداوي بأنّ «موافقات رسمية قد حصلت بالقضاء على هذه الظاهرة في أقرب وقت ممكن».
وما حصل مع فريق قناة «روسيا اليوم» أمس يؤكد أنّ «الأجهزة الأمنية العراقية شريكة في ما حصل ويحصل لشباب الإيمو»، وإلا ما الذي يعنيه احتجاز هؤلاء الإعلاميين ومصادرة مادتهم المصوّرة قبل إطلاق سراحهم؟ ألم تقل السلطة إنّها ترفض التجاوز على الحريات، ولا علاقة لها باستهداف الإيمو ورجمهم، بل نفت أصلاً وجود أي ملاحقة لهؤلاء؟ وكلنا يعلم أنّ الفريق المكون من مراسل القناة الروسية أشرف العزاوي، والمصور علي حسين، ومساعد المصور عبد الله واشي، حصل على إذن رسمي للعمل في بغداد، غير أنّه تم احتجازهم وإبلاغهم بأن التصوير في مركز بغداد ممنوع. وقد أعلنت المحطة في بيان نشرته أمس أنّ «قوات أمنية اقتربت من فريق التصوير أثناء إعداده تقريراً عن الاعتداءات التي يتعرّض لها شباب الإيمو في العراق من قبل المتطرّفين الإسلاميين، وطالبوا الفريق بوقف التصوير». وتابعت أنّه «جرى احتجاز الفريق في قسم الشرطة لمدة ثلاث ساعات وصودرت المادة الإعلامية المصوّرة، ومن ثم أُطلق سراحهم بعد تحذيرهم من أنّ التصوير في مركز العاصمة العراقية ممنوع».
يأتي ذلك في وقت لم تجفّ فيه دماء شباب الـ«إيمو» وتزداد عمليات التضييق على فئات أخرى، أولها فنانو الراب، والمثليون الذين يتعرّضون أيضاً لحملة من الاضطهاد والتنكيل. أما السلطة الجديدة في بلاد الرافدين، فلم يبق أمامنا إلا أن نصدق الأقاويل التي يرددها بعضهم بأنّها ورثت أسلوب صدّام نفسه، حين كان يشغل الناس بأساطير وخرافات يختلقها لإثارة الرعب في نفوسهم كي تسهل بعدها السيطرة عليهم وإخضاعهم، ومنها «أبو طبر» السفاح المشهور. هكذا روّجت أخباراً عن أنّ شباب الـ«إيمو» هم مصاصو دماء وغيرها من الخرافات المثيرة للسخرية.
على أي حال، فالتعديات الحاصلة على الحريات في البلاد ما عادت تحصى. ولننتظر أي خرافة ستأتينا بها الأيام المقبلة لإلهاء الناس عن التفكير في مصير عاصمتهم، وسط هذا الفشل الفاضح والذريع في توفير أدنى حاجات المواطن العراقي، وحفظ الأمن المنتهك، والحرية المسلوبة.