لا نبالغ إذا قلنا إنه يمثّل حالة استثنائيّة في المسرح اللبناني والعربي. هل يجوز أصلاً تصنيفه في خانة المسرح؟ هو نفسه قد يعتذر بلباقة عن هذه الصفة. «هذا ليس مسرحاً» نسمع منذ خمسة عشر عاماً. وتلك العبارة قد تكون أفضل تقديم لتجربة ربيع مروّة الذي ينتمي (مع شريكته لينا صانع) إلى حساسيّة جديدة برزت بعد الحرب الأهليّة وأفرزت جيلاً من المبدعين. بحث هؤلاء عن قوالب ووسائط وتقنيات سرديّة مغايرة، لمساءلة الذاكرة، والإحاطة براهن متقلّب وغير مضمون، من خارج الأطر التقليديّة والمنظومة الجماليّة والأخلاقيّة السائدة.
ربيع مروّة (١٩٦٧) الذي فاز بإحدى جوائر «مؤسسة برنس كلاوس» الهولنديّة هذا العام (يتسلّمها مساء الخميس خلال احتفال في مركز «أشكال ألوان»، بيروت) هو ابن جيل القطيعة بامتياز. اشتغل على أساطير الراهن، غارفاً من دفاتره وأرشيفه، من الصحف والوثائق وكتب التاريخ وأشرطة الفيديو، ليبني أعماله عند الحدود الواهية بين المحسوس والمختلق، بين الرواية واحتمالاتها…
خمسة عشر عاماً بعد مسرحيّة «مقسّم ١٩»، خلق ربيع لغة وأسلوباً، بات ربيع فنّاناً معروفاً في العالم، يصنّف في خانة الفن البصري والفنون الأدائيّة، كما يقدّمه بيان الجائزة الهولنديّة (راجع البرواز أدناه). القطيعة الحادة مع أساتذته من روّاد المسرح اللبناني بدأت في «ادخلْ يا سيدي، إنَّنا ننتظرك في الخارج» (مع طوني شكر ـــ ١٩٩٨). تدريجاً، انفتح على التجهيز («لديّ رغبة جامحة للقاء الجموع مرّة أخرى»، ٢٠٠٦ مع علي شرّي) والفيديو («أنا الموقّع أدناه»، ٢٠٠٧) والبرفورمانس الذي باتت كلمة السرّ في أعماله («المحاضرة» أحد القوالب الأساسيّة التي اشتغل عليها)، آخذاً المسرح إلى احتمالاته القصوى، أي «اللامسرح»: قطع نهائيّاً مع البعد الثالث للخشبة، وألغى عمقها، تاركاً لشاشات الفيديو أن تؤدي هذا الدور. تخلّى عن «التمثيل» مستعيضاً عنه بالقول، بالسرد. اختار أن يتوجّه إلى الجمهور بضمير المتكلّم، أصليّاً كان أو مستعاراً. لم يعد يشتغل على الجسد، كما هي القاعدة في المسرح الطليعي العربي، بل على الصورة. أقلع مروّة عن «الروائي» (شخصيات وحبكة وقصة...)، ليعتمد «الوثائقي»، تاركاً لوسائط التواصل المتعددة أن تكون الحجر الأساس في عمارته المشهديّة.
ذاكرة الحرب في قلب أعماله، تستعمر الراهن بتمزّقاتها وأسئلتها. من «ثلاث ملصقات» (مع إلياس خوري، ٢٠٠٠)، إلى «من يخاف الممثّل» (مع لينا صانع، ٢٠٠٤)، من «بيوخرافيا» (مع لينا صانع، ٢٠٠٢) إلى «البحث عن موظّف مفقود» (٢٠٠٥)، وصولاً إلى «نانسي/ كذبة نيسان» (٢٠٠٧) و«فوتو ـــ رومانس» (٢٠٠٩)، اشتغل على الأرشيف الذي يمثّل المادة الأوليّة لأعماله. كل فنّه يكمن في المونتاج، في طريقة تقديم المادة الوثائقيّة، والتلاعب بها، وإعادة توليفها… الممثل ـــــ الفنان دائماً هنا، بصفته الشخصية التي تنحرف شمالاً ويميناً في سياق السرد. في لحظة سحريّة، ينتقل بنا من التسجيل إلى التأليف. يفكّك الصورة ثم يعيد إنتاجها بعناصر أخرى، ليكشف الخطاب الرابض خلفها، وآليات فبركة «الحقيقة». الحريري الأب مع عبد الناصر، شهداء المقاومة بجسد موحّد، وهو نفسه متقمّصاً قفزة إيف كلين، أو نافورة بروس نومن. ربيع مروّة هو الرجل الذي صالح المسرح اللبناني مع الفنّ المعاصر. قبل أن يمضي بعيداً عن المعمعة. اليوم، بات عليه أن يواجه تحديات مرحلة النضج: كيف يتجاوز نفسه، ويجدد أدواته وخطابه؟ كيف يحاول ألا يبتعد كثيراً عن نفسه، عن مكانه، عن الخيارات الراديكاليّة التي صنعت فرادته؟



بيان جائزة «برنس كلاوس»

رأت «مؤسسة برنس كلاوس» في بيانها أنّ ربيع مروة استحق الجائزة على «مساءلته الراديكالية للذاكرة والسلطة وتركيب الحقيقة، وعلى خلق تماس مباشر مع الجمهور، وعلى استنباط أساليب لتناول اختلال المعنى، وعلى الالتزام الاجتماعي النقدي من خلال فتح نقاش في مسائل وقضايا حساسة، وعلى طرح سؤال أخلاقي يشدّد على مسؤولية الفرد».

http://www.princeclausfund.org/fr/programmes/awards