بعد ثلاثة وعشرين عاماً على مطاردة اسم الحبيب بورقيبة (1903 ــــ 2000) وإرثه، وبعد اثني عشر عاماً على غيابه، عاد اسم الزعيم التونسي الراحل ليملأ واجهات المكتبات التونسيّة، وخصوصاً بعد سقوط نظام الرئيس السابق زين العابدين بن علي. الرئيس المخلوع قاد «انقلاباً طبياً» فجر السابع من تشرين الثاني (نوفمبر) 1987، على مؤسّس الدولة التونسية الحديثة. وطوال سنوات حكمه، منع تداول اسم بورقيبة، رغم ما كان يظهره من وفاء علني له. لكنّ ذلك الوفاء كان في الحقيقة أقرب إلى التمثيل المسرحي. كان التلفزيون الرسمي ينقل زيارات بن علي إلى بورقيبة من دون صوت. حتى إنّ إشرافه على ذكرى وفاته كان يتمّ من دون أي مظهر احتفالي، رغم الحضور القوي للزعيم بورقيبة في ذاكرة الشعب التونسي.

في كانون الثاني (يناير) 2011، أطيح بن علي، ونسي التونسيون بسرعة زمانه. اليوم، لا يذكرون منه إلّا فضائح الفساد التي برع مع أقربائه في تسطيرها. حالما طار بن علي إلى السعوديّة، وانهار نظامه، عادت سنوات «الأب» إلى الواجهة. حنينٌ دفينٌ إلى أيّامه، تكشف عنه سلسلة كتب نشرت منذ سقوط النظام العام الماضي، إذ تتالت الإصدارات التي تحمل تواقيع وزراء وولاة عملوا مع بورقيبة أو عاصروه. وتجمع معظم القراءات للمرحلة البورقيبيّة بين الحنين إلى أنوار الحداثة وقيم العلمانية والجمهورية، ومجانية التعليم والصحة، وبين الرؤية النقدية لتوجّهات القائد الذي آمن بالديموقراطية، لكنّه فشل في تطبيقها.
كتاب الروائي التونسي حسونة مصباحي الجديد «رحلة في زمن بورقيبة» («دار آفاق» في تونس و«دار جداول» في بيروت) واحد من هذه الإصدارات. وكان أوّلها كتاباً عن بورقيبة كتبه الصافي سعيد بعنوان «بورقيبة ـــ السيرة شبه المحرّمة» وصدر عن «دار الريّس» في بيروت عام 2000، ومنع من دخول تونس في العهد السابق. يجمع كتاب حسونة مصباحي بين ذكريات الروائي التونسي الشخصية عن «الزعيم»، وبين تتبّع خطى المناضل الحبيب بورقيبة.
من ذكريات مصباحي اللافتة عن عهد بورقيبة أنّ هذا الأخير أودعه السجن في صيف قائظ، حين كان لا يزال طالباً، لمجرد كتابته منشوراً سرياً مع مجموعة يسارية تعرف «بالعامل التونسي» مطلع السبعينيات. لكنّ الجزء الأكبر من الكتاب يركّز على المناضل الحبيب بورقيبة الذي أوقف حياته على بناء مجتمع تونسي منفتح على العالم، وتأسيس دولة حديثة أثبتت قدرتها على الصمود.
الكتاب رحلة في حياة الحبيب بورقيبة منذ سنوات طفولته بين مدينة المنستير، وتونس العاصمة، ودراسته في المعهد الصادقي الذي أسّسه المصلح خير الدين التونسي، أواخر القرن التاسع عشر لتنشئة نخبة تونسية ملمّة باللغات والعلوم الحديثة. ويرصد الكتاب تأثّره بالفكر الإصلاحي التونسي، والآداب الفرنسيّة، وخصوصاً الأفكار التي صاغتها الثورة الفرنسية. وقد عمّق بورقيبة جهده هذا في باريس حيث عاش في العشرينيات، ليعود إلى تونس لممارسة المحاماة والتفرّغ للنضال الوطني من أجل استقلال تونس. ثمّ قاد الانشقاق عن الحزب الدستوري الذي أسّسه الشيخ عبد العزيز الثعالبي، ومجموعة من متخرّجي جامع الزيتونة. فقد رأى بورقيبة أن سياسة الحزب لم تعد تستجيب لتطلعات التونسيين من أجل الاستقلال، فأصدر جريدة ناطقة بالفرنسية L›action، وأعلن يوم 2 آذار (مارس) 1934، انشقاقه رسمياً عن الحزب الدستوري من مدينة قصر هلال، وتأسيسه لـ«الحزب الجديد» الذي قاد تونس نحو الاستقلال.
بأسلوب روائي ممتع، يضيء كتاب «رحلة في زمن بورقيبة» على أهمّ المحن التي عاشها الحبيب بورقيبة من السجن، إلى الإبعاد والنفي، مروراً بمواقفه من الحلفاء والمحور في الحرب العالمية الثانية، ورحلته إلى القاهرة، والمشرق العربي، وخلافه مع رفيق دربه الأمين العام للحزب الزعيم صالح بن يوسف، وصولاً إلى خلافه مع جمال عبد الناصر، بعد خطاب بورقيبة الشهير في مدينة أريحا الذي دعا فيه إلى القبول بقرار تقسيم فلسطين إلى دولتين. وقد اعتبر آنذاك «منشقاً» عن الإجماع العربي، وتعرّض لحملة إعلامية شرسة من نظام جمال عبد الناصر، وإذاعة «صوت العرب».
يتوقّف مصباحي في عمله أيضاً عند معركة الاستقلال الثانية، أي معركة الجلاء عن مدينة بنزرت، والمحاولة الانقلابية التي قادها عدد من الضباط من الحرس والجيش ضدّ نظام بورقيبة، وانتهت بإعدامهم وسجنهم وتشريدهم. ويواصل حديثه وصولاً إلى المرحلة الاشتراكية المعروفة في تونس بمرحلة التعاضد، وقادها في ذلك الحين الوزير أحمد بن صالح الذي كان رجل النظام القوي. وأشرف أحمد بن صالح على خمس وزارات، قبل أن يلقي به بورقيبة في السجن، ويطارد أنصاره ليتحوّل بعد فراره من السجن، إلى معارض شرس لنظام بورقيبة، ولاحقاً لنظام بن علي.
في الكتاب حكايات كثيرة عن خلافات بورقيبة مع الطلاب والنقابات والأزمات التي عصفت بنظامه خلال أعوام 1978، و1980، و1984 وصولاً إلى إبعاده عن الحكم، وتولّي بن علي رئاسة الدولة. من المفارقات أنّ بورقيبة لم يكن يخفي نفوره من العسكريين، لذلك لم يعيّن أيّ عسكري في أي خطة مدنية.
رحل بورقيبة، لكنّ الإصلاحات التي قادها في التعليم والصحة والسكن الاجتماعي والبنية التحتيّة، لا تزال شاهدة على إنجازات ذلك الرجل. هو الذي أطاح نظام البايات (المملكة)، ليرسي نظاماً جمهورياً. ذاك الرجل الذي تحدّى شيوخ جامع الزيتونة ـــــ السلطة المرجعية الدينية في تونس ــــ من خلال الاستغناء عن التعليم التقليدي، والقضاء الشرعي، وبناء منظومة مدنية حديثة في القضاء والتعليم. ويقف بورقيبة خلف قانون منع تعدد الزوجات، من خلال إصداره مجلة (قانون) الأحوال الشخصية. وهذه القوانين هي العنوان الأبرز اليوم للمعركة السياسية والفكرية بين الإسلاميين الذين وصلوا إلى الحكم في انتخابات 23 تشرين الأوّل (أكتوبر)، والقوى التقدميّة التي تدعو إلى الحفاظ على إرث بورقيبة الإصلاحي والتحديثي. استعادة حسونة مصباحي لإرث بورقيبة يكشف عن جدل حقيقي اليوم، تعيشه تونس ونخبها، حول إرث «باني الجمهورية»، ومحرّر المرأة، كما كان يلقّب في الإعلام الرسمي في زمن حكمه.
هل ينجح البورقيبيون في الدفاع عن إرث الدولة، أم تمحى معالم هذا الزمن تماماً مع صعود التيار السلفي ومحاولات سيطرته على معالم الحياة اليومية؟ سؤال ملحّ مع تسلّم حركة «النهضة» الإسلامية الحكم، هي التي لا تخفي عداءها لبورقيبة ولخياراته «التغريبيّة».