دمشق | تحيل رواية سلوى النعيمي «شبه الجزيرة العربية» (رياض الريس ـــ بيروت) إلى مرجعيات تتعلق برحلة الإياب ومكابدات «حق اللاعودة». امرأة معلّقة بين وطنين. مسقط الرأس ومسقط الحلم. تقف عند خط التماس بهوية ممزقة، فتقرر إعادة تركيب حكايتها على نحوٍ آخر. تحط بها الطائرة في جزيرة مغربية، كان قد عبرها عوليس في طريق عودته إلى إيثاكا. رحلة هوميرية مشابهة تخوضها هزار بين دمشق وباريس. جنازة الأم تعيدها إلى المكان الأول (هل غادرته حقاً؟)، ذلك أنّ التماعات الذاكرة تشدّها إلى دمشق بقوسٍ مشدودة. دمشق التي ستراها بعد غياب 17سنة بمهمة من عملها في مركز حوار الحضارات. بينيلوبي أخرى تحيك خيوط زمنها على نحوٍ عكسي بصنارة الوهم وحصرم الفقدان.
نص بيوغرافي عن معنى الهجرة، وخطيئة استحضار ماضٍ مندثر يستيقظ ويتشظى ويبرق تحت وطأة الكتابة المستحيلة والعلاقة الشائكة بين التذكّر والنسيان. أفكار وأوجاع وصور تتماوج ذهاباً وإياباً، لالتقاط حكاية «مليئة بالثقوب» عن بلاد مشتهاة لم تكتب حكايتها الأصلية، أو أنّها لا تمتلك حكاية في الأصل، ما يقود صاحبة «برهان العسل» إلى سرد متقطع وشذرات متتالية عن شخوص وأمكنة وشهوات، ورحلات تقتفي خلالها أثر السندباد، وابن بطوطة وعوليس، لكنها ستبقى معلّقة في منطقة الحيرة والتيه والقلق.
ترغب أن تمحو ماضيها في دمشق، وترتبط بمكان عيش آخر، لا كمنفى اختياري بل بوصفه وطناً نهائياً. من هنا، يبدو التفكير بصوت عالٍ ضرورة لاكتشاف الذات عن طريق كتابتها، وإعادة فحص هذه الكتابة في مراجعة أخيرة، ومن موقعٍ متبدّل. تتساءل «هل كان كل ما أحكيه لنفسي تعويضاً عن جرح العودة المستحيلة؟ هل كانت الحكاية بحثاً عن وهم النسيان؟ محاولة لإقناع نفسي أنني أجريت عملية البتر وأنّ ما اجتُث لا يمكن أن يعود؟».
هذا الاتكاء على مرجعيات تراجيدية وأسطورية، هو محاولة في وصف الأحوال، وإحصاء الخسائر. سوف يموت أصدقاء، ويبتعد آخرون، ويندثر عشاق، وتبزغ ذكريات طفولة، وأوهام صبا، ونداءات غامضة لرحيل مبكر. كل ذلك لن يخضع تذكاراتها لسطوة الحنين، أو خط الدائرة المغلقة على نفسها. حكايات الآخرين غالباً ما تنتهي بالموت بسرطان الحنجرة. جعفر، وعبدالله وعثمان... كأن الكلام المقموع المتراكم قد أودى بهؤلاء إلى الموت التدريجي، فيما تعالج هزار غربتها بالانتماء إلى المكان أكثر، وامتصاص رحيق اللحظة، بقصد محو المكان الأصلي. حوار مع ضابط مخابرات خلال تحقيق معها إثر عودتها إلى البلاد، أوصلها إلى يقين راسخ بصحة اختيارها المنفى. أخبرها أنها في النهاية ستعود إلى الوطن لتُدفن فيه. هكذا تكتشف ببساطة أن الوطن قبر، فتهتف «لا قبر لي. سيُنثر رمادي في الريح». أوديسة مضادة في تبرير الألم الشخصي، تتقاطع حيناً مع «عوليس» جيمس جويس لجهة استعارة المكان الأول والسعي لاسترداد الهوية المضيّعة، ومع شريط «نظرة عوليس» لثيو أنجيلوبولوس طوراً. كلاهما اشتغل على تعشيق الحكاية الشخصية بالتاريخ العمومي. مشهديات متوترة. فسيفساء فقدان، جسد محروم من تاريخه، أحالت الصور المضيئة إلى الأبيض والأسود، وإلى سخط على بلاد لم تمنحها أكثر من «القهر المجاني والذلّ اليومي والموت التاريخي»، فتبتكر حلّاً لمأساتها بتأسيس «حق اللاعودة». الوطن لا يُبنى بالمراسلة، وقد تحوّل طعمه نعالاً حسبما تقول.
تلجأ صاحبة «كتاب الأسرار» إلى سرد انتقائي في خطوط التفافية، تدعمها عناوين فرعية للإمساك بالمتن المراوغ لتأكيد حجم الاقتلاع والتهميش والنفي والعزاء المخادع. لا تجد سلوى النعيمي ملاذاً آمناً في اللجوء إلى السرد النسوي في تأصيل خطابها الروائي، بقدر اعتنائها بالأنوثة نفسها، سواء كحامل لغوي، أو لجهة تأنيث الرحلة، فهي «ضد عوليس»، و«لم يحط طائر الرخ على أرض الجزيرة، ولم أربط نفسي برجليه، ولم أشدّها شدّاً وثيقاً إلى أرض المدن»، كما فعل السندباد، إنما تحاول أن تتوازن «واقفة على رمل متحرك».
سيتكشّف النص تدريجاً عن عزلة اختيارية تسحب الراوية هزار بعيداً عن الحشود. رحّالة محمّلة بالرغبة وشعور بحريّة مطلقة لا تكبلها القيود، مهما كان نوعها». تعلّق «أرمي بعيداً كل ما يكبّلني، كما أشوط بطرف حذائي حصاة في الطريق». اعترافات البهجة ستقوّض في مقطعٍ لاحق. بازل هنا وبازل هناك، في لعبة مرايا لا تنتهي، وما على الراوية إلا أن تعيد ترتيب القطع المتناثرة مجدداً بما يرضي شهوة الحكاية أولاً، وها هي تُباغت بمن يقوّض نسيج حكايتها. فيما كانت تضع النقطة الأخيرة على السطر في عزلة جزيرتها العوليسية، أتى من يخرج على النص «بدأت حكاية أخرى مختلفة: الثورة في تونس. بن علي هرب. الثورة في مصر. أتابع ما يحدث لحظة بلحظة وأراقب نكث خطوط حكايتي».



سيرة

ولدت سلوى النعيمي في دمشق أواخر الخمسينيات، ودرست الأدب العربي، قبل أن تنتقل للإقامة في باريس مطلع السبعينيات. في العاصمة الفرنسية، التحقت بجامعة السوربون، حيث درست المسرح، والفلسفة الإسلاميّة. بدأت النعيمي الكتابة شعراً فأصدرت دواوين عدة، منها «إنا أعطيناك» (2004)، و«أجدادي القتلة» (2001)، قبل أن تنال شهرةً واسعة بفضل باكورتها الروائيّة الجريئة «برهان العسل» عام 2007، وترجمتها إلى لغات عدّة.