كان الشيخ أحمد الأسير، نجم اليوم، قد فرغ للتوّ من خطابه، حين اجتاح حشد غير متوقّع المنصّة المرتجلة في ساحة البرج. زاغت الكاميرا بين الأكتاف العريضة للملتحين وعناصر قوى الأمن، وإذا بنا نلمح الوزير مروان شربل. ثم نسمع صوت مراسل lbc بسّام أبو زيد يصرخ لزميلته في الاستوديو: «المنصّة رح توقع فينا يا دلال». لحظة العناق بين العميد الساهر على الأمن والإمام الملتحي، هي الفصل الختامي في يوم التشويق التلفزيوني الطويل الذي شهد أوّل موعد للسلفيّة مع قلب بيروت، منذ «واقعة كنيسة مار مارون» (5 فبراير 2006).
كنا نتوقّع يوم أمس زحفاً سلفيّاً على المدينة «لنصرة أهل حمص والمسجد الأقصى»، فإذا بنا أمام soap opera على الطريقة اللبنانيّة. كنّا نتوقّع أن تكون البطولة المطلقة للشيخ أحمد الأسير، لكنّ رجل الدين السلفي الذي خاض أمس الأحد معموديّة النار خارج مسجده ومنطقته ودائرة مريديه، وجد نفسه مضطرّاً إلى تقاسم النجوميّة مع منافسَيْن: فضل شاكر في دور الفنّان التائب، ووزير الداخليّة اللبنانيّة في دور «أبو ملحم». الأوّل جاء مستبدلاً بابتسامة أيّام زمان قناعاً من القسوة والعبوس، ليردد كالببغاء «نصرة حمص وحماه وإدلب ودير الزور ... إن شالله يا ربّ!»، قبل أن ينشد «سوف نبقى هنا». والثاني نزل إلى الميدان، وأمام الكاميرات أخذ يبشّر بـ«وسطيّة» مذهلة: «هودي لبنانيّي، وهودي لبنانيّي ... ما باقي إلا إني إنزل وشيل الشريط الحديدي الذي يفصل بينهم. خليهن يعبّروا عن رأيهم ويحبّوا بعضهم. ويوزعوا الورود البيضاء. شو بدنا بمشاكل غيرنا؟».
هذا النوع من «الأحداث الوطنيّة» تلفزيوني بامتياز. الكاميرات التي سبقت الجميع إلى أرض المواجهة، راحت ترسم الحدود بين «اعتصام السلفيين» و«اعتصام البعثيين»، في الأغورا المنقسمة إلى بقعتين بضيق أفق الحياة السياسيّة اللبنانيّة، ثم إلى مستطيلين متوازيين على التلفزيون. ننتبه كيف أن الشعب السوري الجريح، الذي سرقت منه انتفاضته فانقلبت حرباً أهليّة، ليس أكثر من خلفيّة تراجيديّة في بورصة المزايدة على موته بأشكال وسيناريوهات مختلفة.
«الجديد» افتتحت الكرنفال بريبورتاج كريستين حبيب من «أرض المعركة»: «ألف شخص قادمون من صيدا» و«المئات من طرابلس»، وقوى الأمن مسيطرة على الموقف. على Mtv هنادي تقول لشانتال، وشانتال تقول لهنادي، فيما بيرنا نعمة شديد تحدّثنا عن «الجامع الكبير، الجامع الأزرق» (لم يقل أحد لبيرنا أنّ اسمه جامع محمد الأمين). على «أخبار المستقبل» تحقيق عن قصور النهضة الأوروبيّة، وعلى «الفيوتشر» سمير حنّا يغنّي عند MICHO «ضبّي تيابك»، أو «إكوي تيابك» لا فرق. لقد تبرأ التيّار الأزرق من التحرّك السلفي، مثل عائلة وضيعة الحال تخبّئ ابنها المصاب بإعاقة، وتخجل به أمام الناس، علماً بأن السنيورة رجل الدولة العصري والليبرالي الذي يعشقه الغرب، دخل البرلمان أيضاً بأصوات الشيخ الأسير وأتباعه.
وها هو الشيخ بلال دقماق الذي جاء من طرابلس لنصرة زميله الصيداوي، يتقدّم ليجيب عن أسئلة إدمون ساسين أمام كاميرا Otv من خلف الأسلاك الشائكة. يبدو الرجل ديموقراطيّاً وتعددياً ومعترفاً بالدستور ـــــ شكراً حمص! ـــــ ويذكّر بأن السلفيّة عمرها ١٤٠٠ سنة، ويختم مسيو دقماق بـ«نصيحة وجيهة (...) إلى حسن نصر الله: (...) الدولاب يبرم (...) ما زال بوسعك أن تلتحق بركب الثورة». لارا الهاشم تطمئن مشاهدي البرتقاليّة: «الأجواء هادئة في الأشرفيّة، أهل الأشرفيّة غير معنيّين بالتظاهرتين. لن يجرؤ أحد على اقتحام الأشرفيّة، بيت الكتائب مفتوح استثنائيّاً يوم الأحد، في حالة جهوزيّة لمواجهة أي هجوم على المنطقة». سامحكم الله يا جماعة، ما هذا الخوف؟ اطمئنّوا، الملتحون لا يريدون لكم (ولنا) إلا كلّ خير. منذ قضيّة الرسوم الدنماركيّة، تغيّرت الموازين والتحالفات. والشيخ الأسير سيخص المسيحيين بعد قليل بجزء مهمّ من خطابه، ويرجوهم: «لا تتركوا البلد»! إنّها السلفيّة الـ cool إذاً، بعد قليل قد يذهب لتذوّق كأس «موخيتو» في الـ«تورينو»، أوّل الجمّيزة. لا تكفير، ولا سواطير، ولا إحراق كتب داعرة، ولا تحطيم مسارح وحانات. بل غزليّات موجّهة إلى «أهل الذمّة»، وشكر مديد لرجال الأمن، واعتذار عن الإزعاج الذي سبّبه لهم هذا الاعتصام. الشيخ أحمد يستحق عبّوطة من الوزير شربل.
أما في مجال فنّ الخطابة، فما زالت الطريق طويلة أمامه، ذلك أن خطبة الجمعة في المسجد شيء، والوقوف على منصّة سياسيّة شيء آخر. لقد قدّم فقرات وشعارات تفتقر الى الترابط والجدل السياسي والمنطق. تارة يشطح في رواية عمر بن الخطّاب الخارجة على السياق، وطوراً يخلص إلى أن الغرب داعم لنظام بشّار الأسد. أكثر من مرّة غطّت عليه الهتافات المركّزة لمجموعات متمرّسة في الهتاف. برنامجه السياسي لنصرة الشعب السوري؟ «الإيمان، الاستقامة، العلاقة الطيبة بالخالق، العدل بين الناس ومع الذات (...) لن ندخل البيوت. نتواصى بالحق، وتواصوا بالصبر، إلخ». للحظة، تذكّرنا شخصيّة الإسلامي في أفلام عادل إمام. على شاشة التلفزيون، وجه الشيخ كانت تنقصه القوّة والقناعة بما يقول. يريد أن يحرّر الجامع الأقصى وكنيسة القيامة، لكنّه لا يقول لنا بأيّ وسائل (بالطائرات السعوديّة مثلاً؟). لكنّ الشيخ الأسير يفضّل أن يسقط الطغاة أوّلاً، ثم نرى بالنسبة إلى القدس. كان هذا الحدث الذي ينتظره اللبنانيّون بشوق وقلق منذ أيّام. أما الشعب السوري، فيواصل السير على درب جلجلته ...