لم ينجح مرض السرطان في ترويض السخرية عند سميح القاسم. حتى لو لم يبح هو بذلك، فإنّه يتوسّل السخرية لهزيمة المرض الذي أدخله «في ورطة» كما يقول لـ«الأخبار». عبر الهاتف من الناصرة، يقول: «عندما أخبرني الطبيب بإصابتي بسرطان الكبد، أبلغني أنّ عليّ أن أخضع لعلاج كيميائي. رحت أضحك بشدة، ما أثار دهشة الطبيب وحيرته. قلت له: لقد أوقعتني في ورطة. الناس يعرفون علي الكيماوي. ومنذ اليوم، عليهم التعرّف إلى سميح الكيماوي».
الشاعر الفلسطيني اكتشف السرطان بعدما خضع لعملية استئصال المرارة، وكان لا يزال في بداياته. لا يمتدح صاحب «مواكب الشمس» المرض، ولا يهجيه، بل يتعامل معه «حسبما يقتضي الأمر» كما يقول. هكذا، جعله مادةً لكولاج شعري مثلاً: «اشربْ فنجانَ القهوة/ يا مرض السرطان/ كي أقرأ بختك في الفنجان».
ابن قرية الرامة (عكا) في فلسطين المحتلّة الذي كبر وترعرع بين قريته ومدينة الناصرة، يحكي بفرح عن احتفاء حيفا أخيراً به. يصف ذلك اللقاء مع أهل المدينة بـ«العائلي»، وهو أفضل من العلاج الكيميائي على حدّ تعبيره. علاقات مماثلة تربطه بعمّان وبيروت، المدينتين اللتين يشتاق إليهما دائماً. «عمّا قريب، نلتقي في عمّان، ونلعب الشدّة». و«الشدّة» هي اللعبة الأثيرة لدى القاسم، إذ كان يدعو أصدقاءه إلى غرفته في الفندق عند زيارة العاصمة الأردنيّة، ويقول لهم: «ذهب وقت الجدّ والسياسة والتنظير، وجاء وقتّ الشدّة».
صاحب «دمي على كفّي» ارتبط اسمه بالقصيدة الثورية خلال الستينيات والسبعينيات، وتحوّلت قصائده إلى أغنيات أشهرها «منتصب القامة أمشي» لمارسيل خليفة. نسأله إن صار يخشى الموت اليوم، فيردّ شعراً: «أنا لا أحبك يا موت/ لكنني لا أخافك/ أعلمُ أنّي تضيق عليّ ضفافك/ وأعلمُ أن سريرك جسمي/ وروحي لحافك/ أنا لا أحبك يا موت/ لكنني لا أخافك».
السرطان إحدى المحطّات المثيرة والملتبسة في حياة الشاعر الذي ولد عام 1939 في مدينة الزرقاء الأردنية، لأب عمل عسكرياً في الجيش الأردني. لذلك كان يمازح أصدقاءه إن هم أغضبوه قائلاً: «لا تنسوا أنني وأبا مصعب الزرقاوي من مدينة واحدة»! كانَ والد سميح ضابطاً برتبة رئيس (كابتن) في قوّة حدود شرق الأردن، وكان الضباط يقيمون هناك مع عائلاتهم. حين كانت العائلة في طريق العودة إلى فلسطين عبر القطار، في غمرة الحرب العالمية الثانية ونظام التعتيم، بكى الطفل سميح فذعر الركّاب، خشية أن يؤدي صراخ الرضيع إلى تنبيه الطائرات الألمانيّة إليهم. وبلغ بهم الذعر درجة التهديد بقتل الطفل، إلى أن اضطر الوالد إلى شهر سلاحه لردعهم. ذاق القاسم مرارة السجن، مطلع حياته، بسبب مواقفه السياسية وقصائده الشعرية. وإلى جانب محمود درويش، وتوفيق زياد، وفدوى طوقان، نشأ ما عُرف بـ«شعراء المقاومة»، ويؤكّد أنّ «مصطلح شعراء المقاومة اشتق من قصيدتي «سأقاوم» التي كتبتها رداً على طردي من عملي، ومحاولة تجويعي».
معضلة أساسيّة ظلّت تلاحق القاسم طيلة حياته، هي الهوية. اختار شاعرنا الاستقرار في فلسطين. خيار الصمود هذا فرض عليه أن يحمل هوية الدولة الإسرائيلية المحتلّة، ويتنقّل بجواز سفرها. سجالات كثيرة أثيرت بشأن مواقفه السياسيّة، وصلت إلى حدّ اتهامه «بالتواطؤ». لكنّه يردّ «طاول التشكيك كلّ القامات العظيمة في التاريخ، حتى جمال عبد الناصر، وصلاح الدين الأيوبي. التشكيك مسألة إنسانية عادية لا تقلقني على الإطلاق».
وعلى رغم ما خيّم على علاقة سميح القاسم بالشاعر الراحل محمود درويش من فتور في بعض المراحل، ظلّ صاحب «سقوط الأقنعة» يشعر بتلك القرابة الروحية العميقة التي تربطه بدرويش. وفي قصيدته «مَا مِن حوارٍ مَعك بعدَ الآن... إنَّهُ مُجرَّدُ انفجارٍ آخر!» التي رثى فيها درويش، يستعيد القاسم مواقف الخصومة بينه وبين شريكه في الشعر والحب والمأساة: «لأنّا صديقان في الأرض والشّعب والعمر والشّعر/ نحن صريحان في الحبّ والموت... يوماً غضبت عليك.../ ويوماً غَضِبتَ عليّ/ وما كان شيء لديك. وما كان شيء لديّ/ سوى أنّنا من تراب عصيّ/ ودمع سخي/ نهاراً كتبتُ إليكَ. وليلاً كتبتَ إليّ/ وأعياد ميلادنا طالما أنذرتنا بسرّ خفيّ/ وموت قريب... وحلم قصيّ/ ويوم احتفلت بخمسين عاماً من العمر/ عمر الشّريد الشقيّ البقي/ ضحكنا معاً وبكيْنا معاً حين غنّى وصلّى/ يعايدكَ الصّاحب الرّبذي: على ورق السنديان/ ولدنا صباحاً/ لأُمّ الندى وأب الزّعفران/ ومتنا مساءً بلا أبوين.. على بحر غربتنا/ في زوارق من ورق السيلوفان».
وعلى رغم وطأة المرض الذي يصرّ القاسم على اعتباره «أمراً عابراً حتى لو قضى عليّ»، ظلّ محافظاً على تقاليده السجالية. في نظره كلّ من يتحدث عن مشروع شعري لا ينجز شعراً، وكلّ من يقول إنّ لديه مشروعاً ليس شاعراً حقيقياً. «هناك شعراء افتراضيون كثر يتحدثون عن مستقبل تجربتهم الشعرية، أما أنا فلا أستطيع التحدث إلا عن ماضي تجربتي الشعرية؛ أتحدّث عما حصل، ولا أتنبّأ. التنبّؤ في الشعر خيانة حقيقية له».
في مذكراته «إنها مجرد منفضة» يكتب القاسم ما يسمّيه «الجزء قبل الأخير من السيرة الذاتية». المذكرات مكتوبة بلسان الـمخاطب، تستعيد شيئاً من مناخات سيرة طه حسين في «الأيام». يحاول استعادة هاتيك اللحظات القديمة: «تحاول استعادتها بما تطيق ذاكرة طحنتها رحى الأيام لأكثر من نصف قرن. قد تستقرّ هنا زؤانة وتسقط هناك قمحة.. قد يتقدّم حدث لتتأخّر واقعة. لا تقلق. لا بأسَ عليك. حسبُك أن تتذكر. حسبك المحاولة الصادقة. صور كثيرة تمزّقت تحت جنازير الدبابات والجرّافات، وتُحاول إعادة إلصاق نُتفها وقطعها المتناثرة على الدرب الشائك وعلى الأرصفة الضيقة حَول ذاكرة محاصرة».
* كاتب فلسطيني من الأردن



الخفافيش

الخفافيش على نافذتي،/ تمتصّ صوتي/ الخفافيش على مدخل بيتي/ والخفافيش وراء الصحف/ في بعض الزوايا/ تتقصّى خطواتي/ والتفاتي

■ ■ ■

والخفافيشُ على المقعد،/ في الشارع خلفي/ وعلى واجهة الكُتب وسيقان الصبايا/ كيف دارت نظراتي!

■ ■ ■

الخفافيش على شرفة جاري/ والخفافيش جهازٌ ما، خُبّئ في جدار./ والخفافيش على وشك انتحار.

■ ■ ■

إنّني أحفرُ درباً للنهار!