القاهرة | في الوقت الذي امتلأت فيه صفحات الفايسبوك وتويتر بمئات التعليقات التي تنتقد حكم العسكر وممارساتهم القمعية إزاء شباب الثورة، كانت صفحات أخرى لا تقل عدداً ترثي عسكرياً من نوع آخر، فقدته مصر أول من أمس. إنّه ثروت عكاشة وزير الثقافة الأسبق الذي رحل عن 91 عاماً ويُشيّع ظهر اليوم من «مسجد آل رشدان» في القاهرة.
خلال حياته، أنجز عكاشة الكثير مما يجعله جديراً بالرثاء. وكما كتب نحّات مصري بارز هو شريف عبد البديع على صفحته على فايسبوك: «رحم الله عسكرياً اهتم بتثقيف شعبه، ولعن الله عسكرياً جاهلاً اهتم بقتل شعبه». تلخّص هذه المفارقة مسيرة هذا الرجل في العمل الثقافي وتعطي صورة مغايرة لنمط الضباط الآتين من صفوف الجيش. لكنها في الوقت عينه، تفتح الباب أمام تساؤلات عن الدور الذي قام به في عسكرة الثقافة المصرية أو تأميمها لمصلحة الدولة التي لم يكن نظامها السياسي بمنأى عن الاستبداد، رغم الإنجازات الوطنية التي حقّقها.
طوال أعوامه التسعين، بقي عكاشة في حال أقرب الى «الرجل الأسطورة»، حظيت صورته بآيات التبجيل والاحترام. هذه الهالة الأسطورية لم يكن مصدرها أصواتاً تابعة للنظام الناصري، بل جاءت في غالبيتها من فصائل اليسار التي عاشت فصولاً وتحولات مركبة في علاقتها مع النظام الناصري الذي كان عكاشة أحد أبرع ممثليه منذ التحاقه بتنظيم الضباط الأحرار والتعرّف إلى جمال عبد الناصر عندما كان ضمن ضباط سلاح الفرسان.
وتوثقت صلة الزعيم الراحل بالفقيد عندما عمل الأخير ملحقاً عسكرياً لمصر في سويسرا وباريس خلال فترة توتر العلاقة مع الغرب إبان حرب عام 1956. لمع عندما كان وزيراً للثقافة ونائباً لرئيس الوزراء المصري خلال فترة حكم الرئيس الراحل جمال عبد الناصر.
جاء عكاشة وزيراً للثقافة بعد تشكيل أول وزارة للثقافة في مصر التي أسّسها المفكر القومي الراحل فتحي رضوان في حكومة عام 1958 وكانت تحمل عنوان «وزارة الإرشاد القومي». بفضل ميوله الليبرالية التي لم ينكرها أبداً، نجح عكاشة في نزع الطابع التعبوي الضيق عن الثقافة عبر مسارين: الأول تأسيس بنية ثقافية مؤسساتية شاملة ذات طابع تعليمي وأكاديمي تربوي تسعى إلى نشر الثقافة. أما المسار الثاني، فارتبط بجعل هوية مصر الثقافية تعددية مع الانفتاح على الثقافة الغربية ومؤسساتها الدولية والإقليمية.
في عهده، تأسست وزارة الثقافة كمؤسسة حقيقية شكّلت مثالاً يحتذى به لبقية الدول العربية التي استلهمت التجربة المصرية بعد الاستقلال الوطني. أنشأ المجلس الأعلى للثقافة («المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب» وقتها)، و«الهيئة العامة للكتاب»، و«أكاديمية الفنون»، و«دار الكتب والوثائق القومية»، وفرق دار الأوبرا المختلفة، والسيرك القومي ومسرح العرائس، و«جهاز الثقافة الجماهيرية» الذي كان شرياناً ثقافياً في مختلف أقاليم مصر. كما اهتم باستقدام خبراء عالميين لجمع التراث المصري، إضافة إلى الدور الذي قام به في توجيه نداء عالمي لإنقاذ آثار النوبة بعد تأسيس السد العالي وإعادة بناء معبد أبو سمبل في أسوان، وتأسيس مشروع «الألف كتاب» الذي كان معنياً بنشر الترجمات. 
يحلو للكثير من المثقفين وصفه بـ«البناء العظيم» ولا سيما أنّه استطاع إتمام ذلك البناء المؤسسي في فترة قصيرة. تولّى وزارة الثقافة ثلاث مرات، الأولى من عام 1958 حتى 1962، والثانية من أيلول (سبتمبر) 1962 وحتى 1966، والثالثة من 1966 إلى 1970. ورغم الاعتراف بهذا الدور، إلا أنه يصعب التعاطي معه بمعزل عن دولة يوليو السلطوية. ظل متهماً بتأسيس النهج الذي توسّع فيه لاحقاً وزير الثقافة السابق فاروق حسني وهو «استقطاب المثقفين إلى حظيرة الدولة». تحولت وزارة الثقافة إلى أداة لاستقطاب المثقفين والسيطرة على الإعلام واحتكار نشر المعرفة والأخبار لإعادة تشكيل عقلية مواطنيها. من ناحية أخرى، أدّى توسّع الدولة في نهج «تأميم الثقافة» إلى إهمال تام لمؤسسات المجتمع الأهلي التي كانت قد نهضت بعبء إنتاج ورعاية الثقافة في مصر الليبرالية قبل 1952، وهي المرحلة التي أفرزت عقولاً بحجم عباس العقاد، وطه حسين، وتوفيق الحكيم، ونجيب محفوظ، ولويس عوض وحسين فوزي.
في مذكراته التي كتبها ونشرت في طبعات عدة بعنوان «مذكراتي في السياسة والثقافة»، عدّد عكاشة الأدوار التي أدّاها سياسياً وثقافياً، كاشفاً الآليات التي عمل بها والأسماء التي تعاون معها لتأهيل مؤسسات الثقافة في مصر. وكان من بين هؤلاء علي الراعي، ولويس عوض، ويحيى حقي، وأحمد أبو زيد، وفؤاد زكريا، والراحل سعد كامل وكلها من القامات الكبيرة، ما يكشف عن وعي كبير امتلكه الراحل ودفعه إلى استثمار هذه العقول. لكن سرعان ما استُبعد معظمها عندما كشف النظام الناصري عن توجهاته التسلطية، من دون أن تجد دعماً من «الوزير اللغز» كما يصفه بعضهم، في إشارة إلى عقله المعقد الذي كان عصيّاً على التصنيف. غير أنه في المقابل، شدد في مذكراته على أنّه صاحب «رأي انتقائي، تمليه ميوله الليبرالية». كما كشف عن إيمان بما سماه «دولة الرعاية» التي ترعى مواطنيها في مختلف المجالات وهو منظور حكم فلسفته في العمل الثقافي. لم يبالغ الناقد والكاتب الراحل رجاء النقاش عندما وصفه بأنّ له صوتاً وضوءاً. الصوت نسمعه في الكونسرفاتوار الذي أسّسه في القاهرة، والضوء نراه مع آثار مصر التي أنقذها من الضياع مع بناء السد العالي.



إنتاج غزير

ومن الجوانب المثيرة في سيرة ثروت عكاشة إنتاجه الذي وُصف بالموسوعية. لقد تجاوزت مؤلفاته 80 كتاباً جاءت غالبيتها في مجالات تاريخ الفن، وأشهرها «العين تسمع، والأذن ترى». كما اشتغل على ترجمة نصوص شهيرة زادت على 45 كتاباً، أبرزها نصوص جبران خليل جبران، وأعمال أوفيد، وريتشارد فاغنر، وبرنار شو وغيرهم.