صنعاء | لم يعد الشاعر اليمني عبد العزيز المقالح (1937) قادراً على القراءة تحت ضوء الشموع كما كان يفعل قبل العملية الدقيقة التي أُجريت لعينيه فجعلتهما حساستين لا تحتملان الغازات المنبعثة من فتيل الشمع المحترق. عودة الشموع إلى حياة المقالح حالة فرضها تردّي الأوضاع المعيشية التي تشهدها البلاد منذ شباط (فبراير) الماضي والانقطاع الطويل للكهرباء.
تحوّل كبير في حياة الشاعر الصارم الذي لا يمزح أبداً ولا يسمح بتعديل جدول مهامه اليومية الذي وضعه منذ عودته عام 1977 من القاهرة حيث أتم دراسته، وهو التاريخ نفسه الذي لم يغادر بعده اليمن إطلاقاً. هذا التحول في حياته لا يزعجه: «سمح لي بممارسة أشياء لم أكن أفكر أني قد أفعلها» يقول.
من هذه «الأشياء» تعلم استخدام الكومبيوتر المحمول بعدما امتلك واحداً مجهزاً بعازل يحدّ من الإضاءة المنبعثة من شاشته، فلا تؤثر على عينيه المتعبتين. يقول صاحب «لا بد من صنعاء وإن طال السفر» مبتسماً إنّ حفيدته تكفّلت بتعليمه أبجديات تشغيل الكومبيوتر، وتعبئته بالطاقة في الفترات التي يصل فيها التيار الى المنزل، وكيف يكون قادراً على قراءة الصحف العربية التي لم تعد تصل إلى صنعاء بسبب الوضع الحالي «أقضي وقتاً في تتبع ما يكتبه أصدقائي الأدباء والشعراء في الصحف اليومية وتتبع إصداراتهم».
هكذا، لا يبدو المقالح غائباً عن المشهد الثقافي العربي، مواظباً على الكتابة عن جديده في الصحف والمجلات الثقافية العربية. مع ذلك، يبدو أنّ هذه الأوضاع الاستثنائية التي يشهدها اليمن قد وفرت لصاحب «كتاب الأم» فسحة إضافية من الوقت لم تكن متاحة له سابقاً، خصوصاً في تلك الفترات الخطرة التي صعب فيها التنقل في شوارع صنعاء. لقد وجد نفسه مضطراً للبقاء في البيت، مواجهاً ذلك الوقت المُستحدث في حياته «جعلني هذا الأمر أعدّ مسوّدات أولية أخطّ عليها عناوين رئيسية من حياتي تمهيداً لتصبح كتاباً يحتوي على مذكراتي الشخصية»، مع تأكيده أنّ لا شيء في حياته قد يكون جديراً بالتوثيق: «لستُ نجماً سينمائياً أو رجل سياسة قد يهتم الناس بقراءة مذكراته». لكنّه وجد أنّها فكرة مثيرة على المستوى الشخصي ستجعله يعود إلى الكتابة النثرية التي يعشقها.
إنّه كسر لنظامه اليومي الصارم إذاً مدفوعاً بثقل الوضع المنقلب الذي آلت إليه البلاد. هكذا يبدو شاعر «صنعانية» وهو يعيد ترتيب تفاصيل حياته اليومية والتوقّف عن فعل بعضها مثل امتناعه عن كتابة عموده الصحافي الأسبوعي في جريدة «الثورة» الرسمية الأولى في اليمن. وهو العمود الذي كان ينتظم في كتابته منذ 33 عاماً (كل ثلاثاء): «لم تعد مواصلتي الكتابة في تلك المساحة أمراً ممكناً وأنا أرى دماء الشباب تسيل في الشوارع» يقول المقالح المعروف بطبعه المسالم وغير الصدامي، مشيراً إلى أنّ ذلك التوقف قد يبدو نوعاً من الاحتجاج الهادئ من دون ركوب «موجة الثورة» والظهور كبطل على حساب أبطالها الحقيقيين. رغم ذلك «الاحتجاج الهادئ» الذي أظهره شاعر «كتاب المدن» تجاه السلطة وموقفها من الثورة، لم يخل الأمر من مضايقات تلقاها من النظام. حدث ذلك بعدما أعاد أحد شباب الثورة نشر قصيدة قديمة للمقالح كتبها في السبعينيات وتتحدث عن «عودة قاتل الأطفال». تزامن هذا النشر مع عودة علي عبد الله صالح من السعودية بعد رحلة علاجية قضاها هناك. لكن ذلك الشاب الذي أعاد نشرها على صفحته على الفايسبوك وتناقلتها صحف المعارضة، لم يقم بتدوين تاريخ كتابة القصيدة ليعتقد الجميع، بمن فيهم النظام، أنّ المقالح كتبها واصفاً الطريقة التي عاد بها صالح إلى اليمن. طلبوا منه الظهور على التلفزيون لتوضيح أنّ القصيدة قديمة ولم يكن يقصد بها صالح. يقول المقالح: «حين كتبتها، لم أكن أقصد شخصاً بعينه. الانتقام ليس من وظائف الشعر، وليس ذنبي أنّ القصيدة تطابقت مع الحالة التي عاد بها الرئيس (السابق) الى اليمن». لم يظهر صاحب «كتاب صنعاء» على التلفزيون كما طُلب منه، مع علمه أنّ هذا الرفض سيكلّفه، خصوصاً مع وصول النظام إلى درجة لم يعد فيها يتورع عن فعل شيء.
مع ذلك، ما زال صاحب «أبجدية الروح» يواصل الذهاب إلى «مركز الدراسات والبحوث اليمني» حيث يعمل مديراً له ولا ينقطع عنه إلا في حال إبلاغه بخطورة الوضع هناك. المركز يقع في مكان مجاور لـ«ساحة التغيير» التي يعتصم فيها عشرات الآلاف من الشباب منذ شباط (فبراير) الماضي. عنهم كتب المقالح عدداً من القصائد التي صار الشباب يعدّونها أناشيدهم الخاصة. لكن صاحب «كتاب القرية» يقول إنّ القصائد وحدها لا تكفي كي تعبّر عن الأوضاع الصعبة التي يعيشونها «قلبي معهم دائماً، وأعلم أن هذا وحده أيضاً لا يكفي».



على خطى عبد السلام صبره

عن طريقة حصوله على إصدارات أصدقائه الجديدة، يقول عبد العزيز المقالح إنّه لا يتردد في طلبها من اليمنيين الذين تحتّم عليهم طبيعة عملهم السفر بين العواصم العربية « أجمل ما يصلني من هدايا هذه الأيام هي تلك الإصدارات الجديدة التي أطلب أن يحضروها معهم».
ويستعدّ صاحب «عودة وضاح اليمن» حالياً لإصدار كتاب جديد يحكي سيرة الثائر القاضي عبد السلام صبره (1920 ـ 2012) أحد مناضلي ثورة سبتمبر 1962 اليمنية.
يندرج الكتاب ضمن سلسلة أعمال تحكي «عن أعلام الحرية» في اليمن التي كان عبد العزيز المقالح قد بدأها في أوائل الثمانينيات من القرن الماضي، وصدر منها حوالي أربعة
كتب. وقد شاركه في كتابة بعضها الشاعر الراحل عبد الله البردوني.