في نهاية «هاملت ماكينة» لهاينر مولر، تقف أوفيليا مستعيدة Medea التي ذبحت طفليها انتقاماً من خيانة جايسن لها، لتصبح إحدى الشخصيّات الأكثر ثورية في التراجيديا الإغريقية: «أستعيد العالم الذي ولدته. أخنق بين ساقيّ العالم الذي ولدته. أكفّنه بعاري. ليسقط الخنوع، ليحيا الكره، والازدراء والثورة والموت». في زمن «احتلّوا وول ستريت»، وصرخات الغضب الآتية من اليونان، مهد الحضارة الأوروبية، ونار الغضب التي أشعلها محمد البوعزيزي، تقف ميديا على خشبة «بابل» لتقول لنا إنّ المقاومة حقّ مشروع في زمن الاحتلال والعبودية الجديدة.
تجربة لافتة في مسار الخشبة اللبنانيّة، تحمل توقيع فنّانة مميّزة تخوض أولى تجاربها الإخراجية. إنّها كارول عبود، التي اختارت استدعاء أسطورة ميديا من الزمن الخالد كالأسطورة، لتضيء حاضر الآن وهنا في بيروت ٢٠١٢، لكنة البطلة التراجيديّة عبرت هنا في الأدب المسرحي المعاصر عبر نصّ الكاتب الألماني البارز هاينر مولر (١٩٢٩ ـــ ١٩٩٥) الذي انطلقت منه عبّود في بناء عملها. «ميديا» التي نشاهدها في «بابل»، كتبها مولر على شكل ثلاثيّة بعنوان «مواد لميديا» عام ١٩٨٢، أي بعد «هاملت ماشين» بخمسة أعوام.
وريث بريخت ومكمّله، جاء نصّه في زمن انقسام ألمانيا، ومع بداية زمن الخيبات من تحقّق الحلم الاشتراكي الذي آمن به، ليصوّر الصراع الأزلي بين المرأة والرجل، بين جزءي برلين، بين الغرب والشرق، بين الرأسمالية والماركسية... كل ذلك عبر أسطورة ميديا ابنة آيتيس ملك كولخيس، الساحرة «البربرية» الحرة التي تمرّدت على والدها، وباعت قومها للعدو لأجل من تحبّ، وقتلت شقيقها من أجل جايسن الذي هربت معه، لكن جايسن سيغدر بها، ويقع في غرام ابنة كريون ملك كورنثوس. ولا يعود أمامها سوى الانتقام بقتل ضرّتها وإحراق ولديها. ارتكزت عبود في نصّها على عمل مولر، لكنّها أضافت إليه نصوصاً وروايات كُتبت عن ميديا التي ألهمت كثيرين. عملية مونتاج مزجت فيها مقتطفات من مسرحية «أنا الريكه أصرخ» لداريو فو التي استعادت لحظات المناضلة اليسارية أولريكه ماينهوف في السجن، وكتاب الأخيرة «الكلّ يتحدّث عن الطقس، أما نحن فلا» الذي سردت فيه خلفيات المنظمات اليسارية في الستينيات والسبعينيات، التي رفعت شعار المقاومة المسلحة. أضف إلى ذلك «صوت ميديا» لكريستا وولف وغيرها من المراجع. استفادت عبّود من هذه المناهل لتصوغ رؤياها المسرحيّة وتخلق ميديا جديدة (دانا مخايل) تجسّد نظرتها إلى الصراع.

عملية الكولاج من نصوص كثيرة (شاركها في صياغة الرؤية الدراماتورجيّة الزميل روي ديب)، تجد لها على المقلب الآخر جماليّات خاصة في المقاربة الإخراجيّة للنصّ. شيّدت كارول احتفالها على فضاء متقشّف، تراجيدي بامتياز، يستمدّ «بعده الرابع» من وسائل سمعيّة بصريّة تسهم في التغريب البريختي (فيديو وصوت أيمن نحلة). تلك ركيزة أساسية لعرض «ميديا» تربط بين أزمنة وأمكنة مختلفة، لتعيد إنتاج اللعبة الأزليّة نفسها: السلطة الذكوريّة، والمرأة المقاومة التي ترفض الاستلاب. بهذه العمارة الدراميّة ـــــ المشهديّة، أرادت عبود إعطاء أسطورة ميديا العابرة للثقافات والعصور، نفساً عربيّاً، وربّما طابعاً حميمياً مرتبطاً بتجربتها الفنيّة.
يفتتح العرض على مشهد أبوكاليبتي: ميديا المعلّقة في سقف المسرح، تنزل إلى الخشبة البيضاء والخالية من أيّ بروجكتورات وديكور باستثناء مقعد ووشاح أبيض أشبه بالكفن، سنعرف لاحقاً أنّه فستان زفافها الذي ستهديه ـــــ مسموماً ـــــ إلى عروس جايسن. بفستانها الأسود والجدار الأبيض، تفتتح دانا مخايل «مسرح موتي»، على أصوات طائرات وأزيز وهواء «خلف ظهري حضارتكم... وما تبقّى مجرد عواطف». كأنّها نهاية الأزمنة، أجواء كابوسية ومقفرة ترافق مونولوجاً طويلاً يتقاطع بين ميديا، المغدورة وفصول من سيرة مناضلة ثوريّة راديكاليّة معاصرة من وراء القضبان: أولريكه ماينهوف (١٩٣٤ ـــ ١٩٧٦)، زعيمة «فصائل الجيش الأحمر» في ألمانيا السبعينيات.
يأتي الفيديو والصوت (صوت فويس أوف لكارول عبود في بعض المحطات)، ليشكلا عنصراً أساسياً من العرض، ويعمّقا الإحساس بالمناخ المشحون، المتوتّر، الذي يستبطن عنفاً ويبدو صدىً عميقاً لما يدور في الخارج على مقربة من هنا، في شوارع عربيّة وعالميّة. صور لامرأة تركض في نفق، وسحنات سوداء وبيضاء، مواطنو العالم أيضاً مشروع ميديا آخر... تراوح الكتابة الإخراجيّة في لحظات تماهٍ يفرضها الأداء، وتقنيات تغريب تستدرج المشاهدين، بأسلوب ما بعد بريختي عزيز على مولر. إنّها مسرحيّة تمجّد العصيان، وتبشّر به خلاصاً. ميديا التي رأى فيها نقاد وفلاسفة ومخرجون، رمزاً لمواجهة الاستعمار الجديد، ستقضي على نسل جايسن وتذبح طفليها. العناصر المشهديّة المتقشّفة تتضافر لإزكاء تلك الشحنة التي تبلغ ذروتها حين تقول دانا «ثقيلة هي جثتي، لكنّ مئة ألف رجل وامرأة سيحملونها، وسيسحقونكم تحتها». ميديا عربيّة مقاومة، بطلة تراجيديّة في مواجهة مصيرها على خشبة الواقع. إنّه زمن التمرّد على الظلم، وترنّح الطغاة.



«ميديا»: 8:30 اليوم وغداً ـ «مسرح بابل» (الحمرا ـ بيروت) ــ للاستعلام: 03/692592