عمان | قبل أشهر، جاءت الفنانة البصريّة بسمة الشريف (1983) إلى عمّان، وفي ذهنها الإعداد لمشروع فنيّ جديد. كانت تفكر في إنجاز عملٍ يستند إلى قصّة حبّ تدور أحداثها في المنطقة الملتهبة. وفي طريقها إلى تحقيق ذلك، أجرت أبحاثاً في السينما الفاشيّة الإيطاليّة، وتاريخ المنطقة قبل الإسلام، والتقطت صوراً لطائرات ورقيّة، ولأشجار. لاحقاً، عندما قامت هذه العناصر بالتشويش على صورة العمل الأصليّة في ذهنها، اكتشفت أنَّ العمل تنقصه أغنية عربية قديمة عن الحب، فاختارت أخيراً أغنية «قصص الحب الجميلة» لنجاة الصغيرة.
نتيجة هذا البحث معروضة حالياً في «دارة الفنون» (عمّان) تحت عنوان «أبعد مما تراه العين». يتألّف المشروع من 4 أعمال فيديو، وصور فوتوغرافيّة، وتركيبات فنيّة، تغلب على بنيتها الأساسيّة الحميميّة، وتحمل أسئلة قلقة عن المكان والهويّة والفرديّة، وقصص الحب الفاشلة مع الأوطان. أوّل ما يلاحظه زائر المعرض هو كمُّ التشويش الهائل الذي يقترب من الحقيقة، ويعيد طرح الأسئلة المبدئيّة. تقول الشريف إنّ التشويش غير المتعمّد، يفسد الحقيقة المتداولة عن الأوطان اليوتوبيّة، وقصَص الحب الأفلاطونيّة، والإرث التاريخي الذي يحمله أبناء المنطقة.
في تركيب الفيديو «قصة حليب وعسل» (10 د.)، يروي رجل تجربته الشخصيّة في كتابة قصة حب. في بيروت، يتساءل الراوي عن الذاكرة الجمعيّة، ليحاول التفلّت منها عبر سرد قصة حب خرافيّة في الشرق الأوسط من دون التطرّق إلى السياسة. وفي سبيل ذلك يشوّش الراوي على نفسه: يصوّر أفراداً يتمشّون على الكورنيش، يقرأ تاريخ المنطقة قبل الإسلام، وقبل الاستعمار وتحته. يقلّب كتاباً عن النباتات، ويمحو وجوه صور عائليّة قديمة حتى يفشل في التمييز بين صور عائلته وصور العائلات الأخرى. في النهاية، يكتشف الراوي، عبر عشرات الصور التي تتكرّر على الشاشة، ومع تركيب صوتي يشوّه أغنية نجاة الصغيرة «قصص الحب الجميلة»، أنّه لا يستطيع التفلّت من تاريخ المنطقة المتوارث، الأمر الذي يحيله دائماً على علاقة فاشلة: «من الكذب وصف المشروع بأنّه علاقة حب ناجحة». إذاً، ليس سراً أن الراوي في الفيديو هو نفسه بسمة الشريف.
الفنانة الشابة من أصول فلسطينية، ولا تستقرّ في مكان، تتنقّل بين المدن من شيكاغو، إلى بيروت، وعمّان، والقاهرة، والشارقة. تحاول النظر إلى فلسطين بتجريد. ولأن الفن هو المجرِّد الأفضل، سلكت الشريف هذا الطريق لتشوّش على نفسها كل هذا الإرث. في عام 2009، أنتجت التشكيلية التي حصلت على جائزة لجنة التحكيم من «بينالي الشارقة» في دورته التاسعة، فيديو «وبدأنا بقياس المسافات». في هذا العمل، تتورّط مجموعة أشخاص بقياس المسافات بين الأمكنة، لتنتهي تلك القياسات والمسافات على شاطئ بحر غزّة. لهذا، تنزع الشريف إلى الحديث عن فلسطين كفنانة شابة تمتلك أدوات التشويش الفنيّة، لكنّها تفشل في كل مرة. نكتشف أنّها ليست إلا عجوزاً فلسطينيّة، تتكلّم على فلسطين، بالطريقة نفسها. في فيديو «راحة الحلقوم» (دقيقتان وثلاثون ثانية) تصور ثلاثة مقاطع لغرف فارغة، بينما يردِّد الصوت في الخلفيّة مقادير لأطباق غذائيّة. وفي فيديو «كلّ الأمكنة متشابهة» (11 د.)، تعرض صوراً لمساحات مهجورة، بينما تروي قصة أختين وجدتا نفسيهما على شاطئ جنة مقبلة على الهلاك/ المجزرة.
تواصل الشريف تقصّي أثر الذاكرة الجمعيّة في ذاتها. في حديثها لـ«الأخبار» تتساءل عن حب الوطن، والذاكرة الجماعية التي لم تختبرها، وتسأل عن إمكانات امتلاك ذاكرة أو تعاطف مع شيء لم تختبره. تتحدّث مثلاً عن التعاطف مع العبوديّة في أميركا، رغم أنّ جيلنا لم يختبر تلك المرحلة. ترى الشريف الحاصلة على شهادة الماجستير في الفنون من «جامعة إيلينوي» في شيكاغو، أنَّ الحب هو طريقة للنظر إلى هذه الأمور، بصفته أمراً «لا يمكن وصفه وليس مفهوماً».
في عمل «أشباه البدو الرحّل المثقلون بالديون» (2006)، تعرض صوراً غير مترابطة، محاولةً توريطها في حبكة قصة خياليّة، معتمدة على تقنية الـ Cut-up التي ابتدعها ويليام بوروز للتشويش، أيضاً، على مصدر الحقيقة المتداولة.
عنوان هذا العمل مقتبس عن مقال لمؤسسة أميركيّة لدعم «إسرائيل»، والوصف بالطبع للفلسطينيين. وهنا، تحاول الشريف إعادة خلق التاريخ من دون استعمال عبارات أُفرغت من معناها. تتحدّث القصّة عن الشعور الجماعي بالهروب من مأساة، من خلال التصاق المهجّرين بعضهم ببعض... من خلال الحب.

«أبعد مما تراه العين»: حتى 29 آذار (مارس) الحالي ـــ «دارة الفنون» (جبل اللويبدة/ عمّان). للاستعلام: 009626464325



تضامن هشّ

أثناء النقاش الذي أجرته بسمة الشريف عن معرضها بعد أيام من افتتاحه، جوبهت باتهامات التشويش على قضايا أساسيّة بواسطة تقنيتها الفنيّة. هنا يمكن القول إنّ الفنانة الشابة فشلت مرّتين: مرة في الوصول إلى الجمهور الذي تستحوذ عليه فكرة نمطيّة عن الأوطان، ومرة في التشويش على نفسها. وما يبقى فعلاً هو قصة حب فاشلة يُشوَّش عليها بالفن، وبالأوطان، وما بينهما من تضامن هشّ.