الجبل بالنسبة إلى أهله هو حضن الأم وحصن الأب في جسمٍ واحد. النقطة فوق الصاد هي الفارق وهي الجامع.لا شيء في الأدب اللبناني بمثل حمّى شغف القرية لدى شعراء كالياس أبو شبكة وأمين نخلة وميشال طراد وصلاح لبكي، تارةً باسم القرية وطوراً بتعميم عقائدي إطلاقي هو «لبنان» كما عند سعيد عقل. حنّوا إلى الجبل وهم فيه، كأنهم حدسوا بضياعه. لم يوازهم من الجيل اللاحق في عشقهم المختلج هذا إلّا فؤاد سليمان، حيث أوجاع الانسلاخ عن القرية أَشدّ هولاً من وجع الانسلاخ عن الحياة. أمّا عاصي ومنصور الرحباني فلم يكن فيهما إلّا الجبل، صخره ونهره، وعره وواديه، أجراسه ورؤاه وأصداء أرواحه.
نقرأ (إذا وجدناه في المكتبات) ديوان «الألحان» لأبو شبكة فنسمع ما نقرأ كأنّها ترتيلة حفظناها من قبل وما برحنا نغنّيها في نومنا فرط ما التصقت بلاوعينا وما تحفر في وجداننا حنيناً وتبكيت ضمير:
«أَرْجِعْ لنا ما كانْ
يا دهرُ في لبنان
أرجِعْ إلى الأحداقْ
أطيافها المُبَعَدهْ
ولليالي الوجاقْ والموقدهْ
أرجِعْ إلينا الصاجْ
والجُرنَ والمهباجْ
وخصبنا في الربى
ونورنا في السراجْ
واسترجع الكهربا
وكاذباتِ الغنى
يا دهرُ أرجِعْ لنا
ما كانْ في لبنانْ».
وقوله في القصيدة ذاتها:
«ذاك النبيذُ العتيقْ
في الخابيهْ
وذلك الإبريقْ يهشُّ
في الزاويهْ
والنرجسُ المستفيقْ
في الآنيهْ
والريحُ لصٌ مَرَقْ
على رؤوسِ الحَبَقْ
كأنّه ما سَرَقْ
كأنّه ما جنى
يا دهرُ أرجِعْ لنا
ما كانْ في لبنانْ».
وقبل رعيل أبو شبكة، نجد القرية في كثير من جبران وشيء من أبو ماضي ونعيمه. وطبعاً مارون عبّود.
يحضر الجبل عند خليل تقيّ الدين وتوفيق يوسف عوّاد لا في الأماكن فحسب، بل في اللغة نفسها: عوّاد المجدول العصب كالقصب، كالعوسج والدغل، كالنحل والعسل، بروقاً رعوداً، وتقيّ الدين الطليّ كنزهاتِ الأصيل في البلدات، على طريق الكرّوسة، النديّ كالقمر على الشجر، الشفّاف كالجرار المزدهية بمِسك مائها. وقبلان مكرزل، وفؤاد كنعان، ويوسف حبشي الأشقر، وطلال حيدر، وشوقي أبي شقرا، والياس الديري، وغيرهم وغيرهم، علاقة قلّما نجد شبيهاً لسخونتها في أدبٍ آخر.
ومنهم مَن لا ظهور مباشراً للقرية في نتاجه، وكم تأثيرها عميق وراء الظواهر.
الريف عنصرٌ أدبيّ وفنيّ عالمي، في مصر وأميركا كما في إسبانيا وفرنسا وأميركا اللاتينيّة، والأدب الروسي يفوح بأريج التراب الروسي قَدْر ما ينضح بالمآسي الإنسانيّة. السود لهم غناؤهم ورقصهم، والصفر ألغازهم. الأرض في كلّ حرف وكلمة وحتّى في الرسم التجريدي. لكنّ الرباط الرحمي الذي يشدّ ما بين اللبناني والقرية يتجاوز الوشائج الطبيعيّة المألوفة إلى القربى الميتافيزيكيّة. أبياتُ أبو شبكة بكاءٌ وعويل كأنّهما من أيّوب وأشعيا وأرميا. تعصُّرات فؤاد سليمان، سواء في «درب القمر» أو «تمّوزيّات»، تطحن عظام السماء.
لي رفاق بَيَارتة يُضْحكهم هذا الشغف. لا يفهمونه. الزميل وفيق رمضان كان، إذا تجاوزنا حدود بيروت ودخلنا في انطلياس، يشعر بالغربة ولا يطيق صبراً على الرجوع إلى بيروت. للأمر وجهٌ سياسيّ بالتأكيد. جبل لبنان. الموارنة والدروز. دفءُ الملجأ الجبلي. إعلان لبنان الكبير وبدء النزوح من القرية. بدء النزف. تشريع أبواب الكهف الآمن الذي كانه الجبل. غولُ المدينةِ يزحف ويبتلع طيور البريّة. حريّة المدينة تفسد أمان القرية. امرأةُ المدينة تُبَهِّتُ فتاةَ القرية. رجلُ المدينة يُسخّف رجل القرية. تسليع المدينة يسابق بَرَكات القرية. الشعراء يشتغلون في المدينة كحاملي الكشّة المهاجرين إلى أميركا. بل كالسجناء. القرية حبيبةٌ ظُلمتْ. الجبل مسيحٌ خانه الجميع. القرية عذراء باعها أبوها. الجبل إلهٌ تُرِكَ من أجل مسْخ.
لا أعرف بعد. ومن غير الصحيح اختصار الظاهرة بالقول، مثلاً، إن الجبل أسطورة، والأسطورة يتشبّث بها النائم في ظلالها، المزدهر الريّان المطمئن في ظلالها. الأسطورة شمسُ ساكنها وشلّال مائه، أمّه وأبوه، عشيقته وعشيقه، ربّه وأخوه. الأسطورة مرضعته وملهمته وباعثته من القبر ... حتّى لو استفضنا في هذه الناحية، وهي صحيحة، لا يكتمل الشرح.
ليس سراب الماضي هو وحده ما كان يُجنّن الشعراء في القرية والجبل. اللبناني، وإنْ شاعراً، ليس ذاهلاً مخطوفاً بهذا القَدْر. ليس ميتافيزيكيّاً بهذا القدر. لا بدّ أن يكون المحنون إليه هذا الحنين الأحشائي، حقيقة واقعة أفلتتْ من الأيدي وغارت في المجهول.
ربّما الفردوس المفقود لم يوجد إلّا في خيال الإنسان، لكن القرية اللبنانيّة وُجدتْ في العالم. معاينوها، مُغنّوها، ونَوّاحوها، شهودٌ حاسمون، ويجب أن ننحني لأناجيلهم.

■ ■ ■

كان متيّمو القرية هؤلاء غير فاشستيّين. التعلّق بالأرض ليس شوفينيّة ولا عرقيّة. وبالتأكيد ليس طائفيّة. هو تَعلُّقٌ عاطفيّ غريزيّ شاطح روحيّاً ورامزٌ إلى قِيَمٍ وأفكار نابعة كلّها من مبدأ البراءة وشوق الاحتفاظ بالطفولة. جبران والريحاني ومارون عبّود وأبو شبكة وتوفيق عوّاد وخليل تقيّ الدين كانوا حريصين على عروبتهم وعلمانيّتهم وبعضهم على ماسونيّته وبعضهم على الهرطقة. كانت جريدة «المكشوف»، منبر معظمهم في الثلاثينات والأربعينات من القرن العشرين، ترفع لواء «الأدب العربي»، رافضةً تقسيمه إلى آداب إقليميّة، كأن تقول الأدب اللبناني والأدب السوري والأدب المصري. كان بين هؤلاء أدباء فخورون بلبنانيّتهم ولكنْ ليس بالمعنى الانعزالي والعزليّ، بل بمعنى افتخار ولدٍ بأبيه أو أبٍ بابنه. كان بطرس البستاني الثاني، أستاذنا في مدرسة الحكمة، مرجعاً لا يرقى إليه الشكّ في التراث العربي ولا في التبحّر اللغوي، وكان العارفون يباهون به كونه لا يقلّ معرفةً بالشعر القديم عن طه حسين. فؤاد أفرام البستاني، معلّم أجيال من الطلبة حول الفينيقيّين وخصائص لبنان الثقافيّة والروحيّة، سلخ شطراً كبيراً من جهوده للتنوير حول التراثات الشرقيّة، وأوّلها التراث العربي، واستحقّ على موسوعيّته الدكتورا الفخريّة من إيران الشاه.
من أهل «المكشوف» أيضاً، توفيق يوسف عوّاد. رفض صاحب «الرغيف»، منذ اندلاع الحرب عام 1975، مغادرة بيته في حي المتحف ببيروت، الذي كان منطقة تماس بين طرفي العاصمة، تعبيراً منه عن رفض الانقسام الطائفي، متحمّلاً تراشق المدافع من فوق سطح بيته وحوالى شبابيكه، رغم امتلاكه دارة خضراء في قرية بحرصاف جارة بكفيّا. وظلّ يجاهر بعروبته من داخل مارونيّته، بل في عرين حزب الكتائب وفي جلساته مع زعيمه الشيخ بيار الجميّل وابنه الشيخ أمين، ويتوتّر في هذا الجهر ما طاب له التوتّر. ومن سخرية الأقدار أن يلقى صاحب «طواحين بيروت» حتفه إبّان حرب التحرير التي خاضها العماد عون ضد الجيش السوري في 14 آذار 1989، وكان يومها ضيفاً على صهره سفير إسبانيا في منزله (إمّا بالحازميّة أو باليرزة لا أذكر). قضى هو وصهره وابنته الشاعرة سامية توتنجي بقذيفة قيل إنّها جاءته من جهة المدفعيّة السوريّة.
العروبة، كالثورة، تقتل أيضاً أبناءها.
لنتوقّف هنا عن تقديم شهادات حسن السلوك.
لنتوقّف قليلاً عند سعيد عقل. وحده اشتهر بدعوة اللبننة. ذهب بها حدّ محاولة تغيير الحرف. لماذا؟ كيف لفصيحٍ بليغٍ ضليع زعيم إنشائيّ خارق كهذا أن يطلع ببدعةٍ كهذه؟ هل يُختصر بالنَزَقْ؟ بالنرجسيّة؟ بالسلطويّة المنزوية إلى حدودها الدنيا بعدما لمست استحالة انبساطها على المدى الأقصى؟ لم يُدرس هذا الرجل. لم تدرس مفاهيمه للأشياء، بدءاً من الوطن والأرض. لم تدرس خريطة علاقته باللغة، لا لاهوته ولا ناسوته ولا جماليّته (باستثناء كتاب الشاعر جوزف صايغ). لم يدرس الطفل فيه ولا العنيف. لم يدرس كما يستحقّ وكما ينبغي: بسعةِ أفق الباحث الرصين، العالِم، الشَغوف، المثقّف، الممتلك مصادره وحريّة ضميره في معزلٍ عن مُنْزَلاتِ التصنيف السطحي.
دراسات كهذه، وهي الروح الثانية للخَلْق الأدبي، لم يتبحبح بها أدبنا بعد. لامسها صلاح لبكي في كتابه «لبنان الشاعر»، سطع فيها نجم طه حسين على صعيدي التجرّؤ والمَسْح الشامل، وأبدعت وجدّدت خالدة سعيد في احتضان أدبنا الحديث فاتحة أبواباً ومشرّعة آفاقاً لم يسبقها إليها أحد.
الحقل عريض، ويحتاج إلى المزيد، دائماً إلى نبش وإلى إعادة نبش. الروح الثانية هذه لا تقلّ أهميّة وخَلْقاً عن الروح الأولى.

■ ■ ■

كانت بيروت، منذ ما بعد الحرب الكونيّة الأولى وتصاعديّاً حتّى عشيّة الحرب «الأهليّة» عام 1975، جزيرة الحريّة في المحيط العربي. كانت للفكر والأدب والفنون أهمّ من الأندلس.
وكان الجبل منارة تلك الجزيرة. منارتها وروحها وعروسها وأعذب ألحانها.
ليس في كلامٍ كهذا أيّ عصبيّة، إنْ هو إلّا إقرارٌ بحقّ.