قد تفكّرين في تصفيته لأنّه يستأثر بالريموت كونترول كلّ ليلة. وقد ترغب إن اشتدّت الغيرة، في أن تدفنها تحت التراب، لمجرّد إخفائها عن العيون. تلك الشعرة الفاصلة بين الحبّ، وحبّ التملّك، أرّقت الأدب والسينما في محاولتهما لفهم المناطق الأكثر سواداً للرغبة البشريّة. في مأساة أندروماك الإغريقية كما اقتبسها راسين مثلاً، تدفع هرميون بأوريستس إلى قتل حبيبها بيروس يوم زفافه بسبب الغيرة.
وفي رائعة ستاندال «الأحمر والأسود»، تنجو السيدة دو رينال بأعجوبة من الموت برصاصة جوليان سوريل، عشيقها السابق الذي لم ينجُ من حبل المشنقة. مارغريت دوراس «معلّمة» الرغبات المكبوتة، تفتتح روايتها Moderato Cantabile مثلاً، على عاشق يقتل حبيبته في مقهى قريب من البحر، ثمّ يرتمي فوق جثّتها ليندبها. غيرة عمياء، شغف، قلّة صبر، خوف من الفقد، نوازع موت طافحة، جنون... كلّ هذه الأسباب ممكنة، لكن رغم فجائعيتها، تتمتّع جريمة الحبّ بهالة خاصّة، تجعلها فعلاً رومانسياً في اللاوعي الجماعي. كأنّ التطرّف في الحبّ، هو الشكل الأكثر اكتمالاً للعاطفة.
الفنان البصري أكرم الزعتري تطرّق إلى هذه الظاهرة في شريطه القصير «مجنونك» (1997). الأبطال رجال من أهل الهامش يحكون عن نوازعهم التي قد تذهب حدّ قتل الحبيبة وقتل النفس، كشكل من أشكال التعبير عن فحولة شرقيّة. تتردد كلمة «موت» كثيراً في الأغنيات الشعبيّة العاطفيّة العربيّة، وفي الموضة الرائجة اليوم، نسمع عن جنون، وقتل، ومسدسات في الرؤوس. أمّا هوليوود، فقد صوّرت المرأة المخدوعة، قادرةً على تدبير مختلف أشكال المكائد: اغتيالات، سيارات مفخخة، سمّ، مسدسات مكتومة الصوت، سيوف ساموراي (كوينتن تارانتينو وأوما ثورمن في «اقتل بيل»). ليدي غاغا نفسها، تقتل حبيبها في معظم كليباتها، في «باباراتزي» تتنكّر بزي فأرة لتدسّ له السمّ في العصير انتقاماً. وفي «تلفون» تتقمّص شخصيّة قاتلة متسلسلة، وتذهب لمساعدة بيونسيه على تصفية عشيقها، بالسمّ أيضاً. قد ينحو اقتباس الفنانين لجرائم الشغف في أعمالهم نحو الفكاهة معظم الأحيان، لكن ماذا لو كان الشعراء والأدباء والموسيقيون هم أنفسهم من يقتل باسم الحبّ؟

يزخر التراث العربي بأمثلة مشابهة، منها قصّة الشاعر والفارس البدوي نمر بن عدوان (1745 ــ 1823) الذي قتل زوجته وضحا بالرمح في الليل عن طريق الخطأ بعدما ظنّ أنّها لصّ، وأمضى ما بقي من حياته يرثيها، لكنّ أشهر العشاق القتلة، يبقى الشاعر ديك الجنّ الحمصي (اسمه الحقيقي عبد السلام بن رغبان، 778 ـــ 850). وتختلف المرويّات حول تفاصيل جريمة ديك الجنّ. منهم من يقول إنّه قتل جاريته ورد، بعدما ضبطها تخونه مع غلام كان يعشقه أيضاً. هكذا، قتل الاثنين، وأحرق جثتيهما، وراح يثمل، وينظم فيهما الشعر، لكنّ الرواية الأكثر انتشاراً تبقى ولهه بزوجته ورد، وغيرته عليها، التي أودت به إلى قتلها. ويتبدّى هوس ديك الجنّ في الكثير من القصائد التي تركها: «لكن ضننت على العيون بحسنها/ أنفت من نظر الحسود إليها»، يقول في أحد أبياته الشهيرة. ومن الجرائم التي شغلت الصحافة العربية في الخمسينيات، قضيّة السينمائي المصري إبراهيم لاما، صاحب أوّل فيلم مصري «قبلة في الصحراء» (1927). كانت نهاية مأساوية، حين أطلق النار على زوجته السابقة بعدما رفضت العودة إليه، ثمّ انتحر.
واحدة من جرائم الحبّ المعاصرة المأساويّة، ارتبطت باسم الفيلسوف الفرنسي لوي ألتوسير (1918 ـــ 1990). أحد أبرز المجددين في الفكر الماركسي، خنق زوجته هيلان ريتمان حتى الموت عام 1980. لم يكن سبب الجريمة الغيرة، ولا حبّ التملّك، ولا نزعة موت فجائية... بل الخرف بكلّ بساطة. لم تتمّ إدانة ألتوسير، إذ ارتأت المحكمة أنّه كان في حالة فقدان تامة للوعي والسيطرة على تصرفاته حين وضع يديه على رقبة المغدورة.
أمّا جريمة العصر الأكثر تداولاً في الإعلام خلال السنوات العشر الماضية، فهي مقتل الممثلة الفرنسية ماري ترينتينيان (1962 ـــ 2003) على يد شريكها المغني برتران كانتا. لقيت ترينتينيان حتفها إثر ارتجاج دماغي، بعدما ضربها كانتا على نحو متكرّر على رأسها، وسط موجة غيرة عاصفة. الحيثيات القضائية التي تلت وفاة الممثلة الشابة، وإطلاق سراح كانتا بعد ثمانية أعوام على الجريمة العام الماضي، تحوّلت إلى قضية رأي عام، تشعّبت النقاشات حولها، بين حدود العنف ضدّ المرأة كضحيّة أولى لجرائم الشغف (أكثر من 70 في المئة)، وإمكان اعتبار جرائم الحب قتلاً عمداً، أو فعلاً ناتجاً عن اضطراب نفسي.
أحد المبدعين القتلة عاش حياته من دون عقاب، وهو الموسيقي الإيطالي كارلو جيزوالدو (1560ـــ 1613) الذي نفّذ بزوجته وعشيقها «حكم الإعدام» في ليلة مظلمة. الموسيقي الأمير، استلّ سيفه، وقال لخادمه إنّه ذاهب للصيد. مكانته النبيلة، وارتباطه الوثيق بسلطة الإكريلوس، جعلا جيزوالدو ينفد بريشه، وحوّلت قصّة مقتل زوجته إلى أسطورة شعبيّة.
من الحبّ ما قتل إذاً. وفي عيد العشاق 2012، لنتذكّر «نبيّ» جبران، الذي ينصح المحبين قائلاً: «...إنّما اتركا بينكما بعض فسحات، لترقص فيها رياح السماوات».




دفنها في الحديقة

جريمة الشغف الأكثر غرابةً في عالم الأدب، ارتكبها الكاتب الهولندي ريتشارد كلينخامر (1937). عام 1991، قتل زوجته جوهانا، ودفنها في حديقة منزلهما. ثمّ كتب تفاصيل الجريمة في رواية عن رجل يقتل زوجته، رفضت العديد من دور النشر طباعتها، لتركيبتها الركيكة. عام 2000، اعترف كلينخامر بقتل زوجته، وبأنّ روايته الفاشلة تلك استلهمت العديد من تفاصيلها من طريقة تنفيذه للجريمة التي راحت ضحيتها جوهانا المسكينة.