«إنني منيع ضد نيويورك، وضد أصدقائي القُدامى، وضد الماضي، ضد كل شيء. للمرة الأولى في حياتي، أنا منغمس تماماً في كائن آخر، فيك» (ترجمة أسامة منزلجي). هذا مقتطف من مراسلات هنري ميللر لأناييس نن، التي استمرّت عشرين عاماً. أما هو، فكان بالنسبة إليها «في صلب وجودها وكينونتها. النقطة الثابتة، وشغف حياتي». نحن في عام 1931وتحديداً في فرنسا الغارقة في حفلاتها الصاخبة وتياراتها الفنية ومقاهيها الأدبية. صاحب «مدار الجدي» (1891 ــــ 1980) سيهرب من أميركا الطهرانية إلى باريس الحرية، معانقاً حياة بوهيمية في شوارع عاصمة الأنوار، وسيعيش طفيلياً على حساب أصدقائه، أو متشرداً ينام تحت الجسور.
ترك وظيفته في مكتب البريد في نيويورك، وقرّر الاستسلام لقدره: الكتابة. الكتابة ليس وصفها فعل خصاء، بل تلصّص من ثقب باب كما قالت مرة أناييس نن (1903 ـــ 1977) في كتابها «دلتا فينوس». ستتعرف ابنة الـ 28 إلى ميللر في بيتها في لوفسيان، حيث كانت تعيش حياتها مع زوجها الذي تحرص على مشاعره.
كلاهما كاتب مغمور، يتلمّس طريقه. سيكون لقاؤهما أشبه بحالة امتلاء تستمر عشرين عاماً: من شغف مجنون واكتشاف الملذات الحسية والشهوانية، إلى صداقة وتواطؤ أدبي عميق. صاحبة «اليوميات» ستصبح «مهووسة جنسياً بهنري بعدما أطلق العنان للحيوان البري القابع داخلها». سيهجس هو بها وتجمعهما ملهمة واحدة. إنّها جون زوجة ميللر التي ستأخذ الكاتبة الإيروسية إلى قاع الرغبات الحسية، جون المجنونة التي تشرّع جسدها وحواسها على المتع والتجارب القصوى المدمّرة. ستجمعها علاقة جنسية بنن، التي ستنكر ذلك لاحقاً. لسنا بعيدين تماماً عن «العلاقات الخطرة». على أنغام الموسيقى اللاتينية والكوبية، سيمارس ميللر وأناييس الجنس في الباب الخلفي من الملهى، سيقول لها أحبّك بلهاث محموم كما شاهدنا في فيلم «هنري وجون». وفي رقص يلتحم فيه جسدان بكل شحنتهما، ستغرق جون وأناييس في القبل المحمومة.
في هذه المرحلة بالذات، كان صعلوكنا ينكبّ على كتابة «مدار السرطان» التي ستصدر عام 1934 في باريس، وتُمنع في أميركا حتى 1961. شهوانيته وأنانيته وسوقيته ستدفع أناييس إلى وصفه بالمهووس الجنسي، الذي يعاشر المومسات ويعيش متسكعاً في شوارع باريس. أناييس الأرستقراطية وابن بروكلين الهامشي والقذر جمعتهما هواية تحطيم التابوهات. ستؤمن به أناييس، وسيشجّعها على مواصلة يومياتها، ستخرج جون من حياتهما... ويستمرّان رفيقين حتى النهاية.