برلين | إذا كانت الدورة الـ 62 من «مهرجان برلين السينمائي الدولي» (البرليناله)، انطلقت مع الثورة الفرنسية، فإنها تضع هذا العام العالم العربي تحت دائرة الضوء، والسبب «الربيع» من دون أن يكون هناك حضور للأفلام العربية في المسابقة الرسمية (راجع ص 15). مسابقة سجّلت غياباً أميركياً باستثناء عمل واحد من إنتاج أميركي روسي هو «سيارة جاين مانسفيلد» لبيلي بوب ثورنتون.
يمكن التعامل مع فيلم الافتتاح «وداعاً يا مليكتي» للفرنسي بونوا جاكو بوصفه على اتصال بالثورات العربية، وخصوصاً أنّنا سنقع على قصر فيرساي عام 1789 عشية الثورة الفرنسية، وسكّانه الذي يلفظون أنفاسهم الأخيرة، وكلّ يفكر في الهرب، وأهواء الملكة ماري أنطوانيت، لكنّ الفيلم الذي تشارك فيه نخبة من النجوم مثل ديان كروغر، وليا سيدو، وكزافييه بوفوا، لم يحظ بأيّ حفاوة نقدية.

الثورة هي الكلمة السحرية هذه الأيام. لتعزيز ذلك في برلين، فإن نسخة جديدة وكاملة من «أكتوبر» (1928) لسيرغي آيزنشتاين جرى العمل عليها منذ عام 1970، عُرضت في ثاني أيام المهرجان مع أغنيتين مصوّرتين للمغني هانز ايسلر، مستعادتين من فيلم «ثورة الصيادين» (1934)، لكن في الوقت نفسه، لن تغيب تيمات أخرى عن الأفلام: اعتداءات 11 سبتمبر حضرت بقوة في جديد الإنكليزي ستيفن دالدري «صاخب جداً، قريب للغاية» (خارج المسابقة)، وجاء الإرهاب صاخباً وعنيفاً في فيلم الفليبيني بيرلنتي ميندوزا «أسيرة» (ضمن المسابقة)، الذي يمضي بنا في أدغال مينداناو مع «القاعدة» وجماعة أبو سيّاف. أما ألمانيا الشرقية، فما زالت واردة مع الألماني كريستيان بيتزولد في فيلمه «باربرا» (ضمن المسابقة) حيث طبيبة تسعى إلى الهرب إلى ألمانيا الغربية.
القول إنّ Extremely Loud and Incredibly Close (بطولة توم هانكس وساندرا بولوك) فيلم مصوغ بحنكة سردية ومونتاجية أمر ليس غريباً عن صاحب «ساعات». عبر الانحياز إلى توثيق الأحداث التاريخية المفصلية في سياقها الإنساني، يقدّم الشريط رواية موازية هي رواية البشر ومصائرهم الحزينة ونكباتهم الشخصية، من خلال نكبة تطاول شعباً أو أمة بأكملها. وبناءً عليه، فإنّ ظهور برجي التجارة العالميين وهما ينهاران في فيلم دالدري أمر ثانوي بالنسبة إلى قصة أوسكار شايل، الذي يقتل والده في التفجيرات. مأساة أوسكار الشخصية تبقى شخصية في مسارها الظاهري، لكنّ تنقلات أوسكار وحركيته المدهشة تمسيان معبراً إلى ملف ضخم عن العذاب الإنساني. مع مأساته، يجمع مآسيَ كثيرة، إذ يقوم بزيارة 472 شخصاً ويلتقط صورهم، ويوثق قصصهم في دفتره، محاولاً اكتشاف لغز بسيط بعدما ترك والده ظرفاً صغيراً يحوي مفتاحاً كتب عليه «بلاك». وهؤلاء الأشخاص ليسوا سوى كل مَن يحمل كنية «بلاك». الكيفية التي جرى بها تقطيع الفيلم مونتاجياً، والطريقة التي يتلقى بها أوسكار نبأ وفاة والده، وتتبّعنا للرسائل التي يتركها الأب على الهاتف قبل أن ينهار البرج، تضعنا جميعها في أجواء هذه المأساة.
بالانتقال إلى الأفلام الأخرى التي عُرضت حتى الآن، يمكن اعتبار اليوناني«ميتيورا» (دير) للمخرج سبيروس ستاتهولوبولوس، وفيلم الأخوين الإيطاليين باولو وفيتوريو تافياني «قيصر يجب أن يموت»، أهم ما عرض حتى الآن ضمن المسابقة الرسمية. الأول مثّل تعزيزاً للأسلوبية وإمكان تقديم مقترحات جمالية جديدة في الفن السابع. جمالية الشريط تبدأ من موقع التصوير، الذي يجري في دير يقع عند كتل صخرية هائلة الحجم والارتفاع. إنه فيلم مدهش يحوّل الأيقونات الكنسية إلى «أنيماشن» وتشكيلات بصرية تأتي بمثابة سرد مواز للقصة التي لن تكون سوى قصة غرام محرّم بين راهب وراهبة، وصراعاتهما مع الغواية. ما يكون محمّلاً بشعرية عالية ومجازات خاصة، يتولى الأنيماشن سرده مستثمراً مفردات الأيقونة، كأن يتحول شعر الراهبة إلى حبل طويل يمتد إلى غرفة الراهب، فيسير عليه آتياً إليها.
الأخوان تافياني قدما معالجة سينمائية جديدة لمسرحية شكسبير «يوليوس قيصر». يبدأ الشريط مع المشهد الأخير من المسرحية، وبروتوس ينتحر، ثم سنكتشف أن الممثلين ليسوا سوى سجناء. سيكون الفيلم توظيفاً لسينوغرافيا السجن في إعادة تقديم قيصر الذي «مات آلاف المرات على خشبة المسرح». حتى الآن، تبدو الدورة الـ62 من «برلين» مسيّسة، تستعير من التاريخ أحداثه القريبة والبعيدة، لعلّها تصلح إسقاطاً على زمن الثورات العربية.
www.berlinale.de




جولي ولجنة التحكيم

«مهرجان برلين السينمائي» الذي انطلق في التاسع من الشهر الحالي ويستمرّ حتى 12 شباط (فبراير)، يرأس لجنة تحكيمه هذه السنة المخرج البريطاني مايك لي، ويضمّ كلاً من المصوّر الهولندي أنتون كوربجين، والمخرج الإيراني أصغر فرهادي، الذي نال جائزة «الدب الذهبي» العام الماضي عن شريطه «انفصال»، والممثلة شارلوت غينسبور، والممثل الأميركي جايك غيلينهال، والمخرج الفرنسي فرنسوا أوزون، والكاتب الجزائري بوعلام صنصال، والممثلة الألمانية باربرا سوكوا. وينتظر كثيرون الفيلم الأول الذي أخرجته أنجلينا جولي «في بلاد الدم والعسل»، الذي سيعرض ضمن تظاهرة Berlinale Special.