على الغلاف | روى الفنان البحريني الراحل محمد عيسى علاية (1919ــــ 2002) هذه الحادثة الملأى بالدلالات التي تعود إلى ثلاثينات القرن التاسع عشر، وتمثل نوعاً من حوارات «الأنتلجنسيا» البحرينية في تلك الفترة. تدور القصة في بغداد، حين كان يُخفّ الرحال إليها لتسجيل أسطوانات الغراموفون الشمعية، و«بطلاها» اثنان من أشهر رموز الغناء المعروف بـ «فن الصوت» في البحرين والجزيرة: محمد بن فارس (1895 ـــ 1947) وتلميذه ضاحي بن وليد (1898 ــــ 1941).
يقول علاية: «حين كنا في بغداد خرجنا للسوق، فاشترى محمد بن فارس رقّيَّة (نوع من الثمر الصيفي) وطلب من ضاحي حملها. الأمر الذي رفضه ضاحي قائلاً: أنا وأنت مثل مثل. أي من المقام نفسه. هكذا ضرب عرض الحائط طلب سيده الذي ينسب له الفضل أيضاً في تعليمه أصول الغناء.
كان ضاحي عبداً مملوكاً لمحمد بن فارس الذي ينتسب إلى العائلة الحاكمة، آل خليفة، وقد جيء بوالده من مكة عام 1889 بعد ابتياعه على يد زوجة حاكم البحرين آنذاك عائشة بنت محمد آل خليفة (توفيت عام 1947). لقد راع محمد بن فارس ردّ «عبده المملوك»، فهو شيخ ابن شيوخ. ولم يكتف ضاحي بعصيان أوامره؛ بل طوّر هوية مغايرة تحطّم علاقات القوة أو التراتبية المفترضة بين العبد وسيده: «أنا وأنت مثل مثل»! أدى ذلك ـ حسب رواية علاية ـ إلى وقوع مشادة بينهما. تعكس هذه الحادثة واحدة من تناقضات مجتمعنا البحريني في القرن التاسع عشر في ظل وجود طبقة العبيد.
لسوء حظ ضاحي، وهو رمز تم الاحتفاء به كثيراً في أدبيات اليسار البحريني بوصفه نموذجاً للطبقة المسحوقة المتمردة على علاقات السيطرة، أنّه بعد قرن على هذه الحادثة، فإنّنا نحن أبناء الألفية الجديدة ما زلنا نطلب من الموقع «التراتبي» ذاته من العائلة المالكة أن نكون «نحن وإياهم مثل مثل».
لم تسعف ضاحي ثقافته، ولا المناخ العام إذّاك أن يصيغ هذا الطلب في الكلمة التالية: «مواطنة». لكنّنا عثرنا عليها. نحن جيل مدونات الحقوق وعصر بناء الدول، ومدونات «فايسبوك» و«تويتر»! كانت الضريبة التي دفعها ضاحي جراء التمادي في العصيان وضيق سيده ذرعاً من منافسته له في «فن الصوت»، هي حرمانه من الغناء. هددته عائشة آل خليفة بـ «إرجاعك إلى المكان الذي ابتعته منك ما لم تتوقف»، مثلما يروي أحد شيوخ العائلة المالكة الشاعر المرحوم أحمد بن محمد آل خليفة. وإلحاقاً بذلك، ندفع نحن اليوم، ثوّار اللحظة الضريبة كالتالي: «إرجاعاً» رجعياً في الزمان... إلى القرون الوسطى!
لقد أتيحت لي سابقاً فرصة إعادة بناء سيرتيّ السيد (محمد بن فارس) والعبد (ضاحي بن وليد) في إطار ملف خاص أعددته بطلب من إحدى الدوريات الثقافية. وأجد نفسي محظوظاً لأنني تمكنت من اختبار ترتيبات القوة المفترضة بين اثنين يتحدر أحدهما من عرق مهيمن، والآخر من عرق خاضع خلال المعمودية التي يخوضها شباب وشابات بلدي منذ 14 فبراير (شباط) 2011. لحظة تجرأوا على الجهر في وجه الحاكم: «لسنا عبيداً أو رعايا، بل مواطنون»، أي بمعنى آخر: «نحن وأنت وعائلتك مثل مثل». وهو كلام كبير على عائلة اعتادت الاستئثار بالخير العام، والعيش على نظام الامتيازات الرجعي والمتخلف.
ولم يكن خلوّاً من دلالة أن أتلقى اتصالاً من رئيس تحرير المجلة بعد أيام على استيلاء المتظاهرين على «دوار اللؤلؤة»، يطلعني فيه على قرار تأجيل نشر الشق المتعلق بسيرة ضاحي «ذلك أنّ الجو العام غير ملائم». وهو لن يكون ملائماً إلا عندما يُفرض قانون السلامة الوطنية الذي يقول محامون إنه أشد من الأحكام العرفية بحيث يتاح للسيد استعادة موقعه المتفوق في نظام العبودية. ساعتئذ فقط تم نشره!
هذا «الجو العام غير الملائم» منذ زمن ضاحي صار ملائماً اليوم لأن يكون «عاصمة للثقافة العربية». لقد وقف الحكم مرّتين في البرلمان ضد تمرير قانون يجرّم التمييز على أساس العرق أو المعتقد. وحتى خروجي من بلدي في نيسان (أبريل) الماضي، كانت قوات الأمن تسأل الناس على الحواجز عن هوياتهم المذهبية، وعليها يلقون الجزاء! كان الحكم يلحّ بأن يكون الناس «غير غير» في الوقت الذي يلحون هم على أنّهم «مثل مثل».
ونسْجاً على الرد الذي قابل به ابن العائلة الحاكمة بن فارس عبده الزنجي المولود من أب إفريقي، سيأتي الرد على ثوار 14 فبراير (شباط) الذين تجرأوا على «لخبطة» علاقات الهيمنة: كل ما لم تتخيّله سيحدث! ستُلغى المشاريع الثقافية وتُثبَّت مشروعية واحدة هي الولاء للحكم. وسيعاد تلقيح أقدم كيان أدبي بحريني هي أسرة الأدباء والكتاب (تأسست عام 1969) عقاباً لها على مواقف اتخذتها في الاحتجاجات. وقد فُرضت عليها إدارة جديدة موالية للسلطة، وأجبرت على تغيير اسمها. لم أتخيل أن يأتي يوم أشاهد فيه تجريف المساجد ودور العبادة الخاصة بطائفة في بلدي في سياق المغالبة على طرح سياسي. لست متديناً، ولا تغريني الهوية أو الحياة الدينيتان، لكنني أدرك بتكويني قيمة الرمزيات في حياة الجماعات. وأدرك أنّ شيئاً كهذا راح ضحيته 1200 قتيل في الهند لحظة هدم مسجد بابري 1992، و24 قتيلاً في مصر 2011، ضمن أحداث ماسبيرو بعد هدم أجزاء من كنيسة. وسط ذلك، هُدم 40 مسجداً في البحرين منذ آذار (مارس) وسط خرَس عجيب من أولئك المنافقين الذين هزّت وجدانهم الرسوم الدانماركية أو حجاب فرنسا!
أثبت تقرير اللجنة الملكية لتقصي الحقائق في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي قيام الجيش بهدم المساجد، وتعمّد عناصر الشرطة ازدراء عقائد المحتجين ورميهم بأوصاف تحقيرية. كل ذلك حصل وما زال يحصل بتكرار «كلثومي» في عاصمة قيل لنا إنّها «عاصمة الثقافة العربية». عاصمة لم تستطع حتى الساعة أن تقوم على مبدأ «مثل مثل» الذي طالب به أحد أبنائها قبل حوالي قرن. فهل تمزحون؟!

* صحافي وكاتب بحريني