بعد ثلاث سنوات على عرضها الأول في بيروت، قدّم عصام بو خالد مجدداً مسرحيته «بنفسج» في «مسرح مونو» قبل أن تشدّ رحالها إلى باريس (1/ 18 آذار/مارس) والقاهرة (6/15 نيسان). فرض علينا التوقيت والأحداث قراءة مختلفة للعرض من دون أن يجري بو خالد تعديلات على النصّ.
في تلك العلبة السوداء، تسقط امرأة (برناديت حديب) بعدما فقدت ولدها، وتقطع جسدها. تستعير أعضاءً تجدها متراكمةً حولها، وتعيد تركيب جسمها. تجد قفاها في وجهها، تضع رأسها في حضنها، تنعكف يديها، تقف وتقع، لم يعد لجسدها ـــــ للمادة ـــــ أي منطق للحياة. لقد أصبحت في عداد الأموات/ الأحياء. في تلك العلبة السوداء أيضاً، كلب (سعيد سرحال) مقيّد بحبل. إنسان طُلب منه استبدال كلماته بالعواء. إنّه الخارج من سجون الاضطهاد والتعذيب والألم، من بشاعة فعل الإنسان. يستعيد الكلام في أواخر العرض لينطق بعذاباته. هي المسخ الباكي، تشمخ في وجه آلامها، تسخر منها، وتحوّلها إلى تفاصيل في مذكرة التعاسة الأبدية ثم تنكسر أمام خفرات دعسات طفل يركض، لعله ابنها. في تلك الدوامة، تستعيد ذكريات نموه في أحشائها، وتتمنّى لو ينتشلها من هنا ليدفن جسمها تحت شجرة صفصاف حيث يزهر «البنفسج». يتميز نص عصام بو خالد وإخراجه بقدرته على التقاط التفاصيل. ينجح في ضبط إيقاعه، وتوزيع المشاعر والانفعالات بطريقة لا تُغرق الخشبة والممثلين فتخنقهم. في صلب أنين الموت، يجد مساحة لتلوين نصه بابتسامة تندّي شوكة السياق الدرامي من دون الوقوع في الابتذال. في اللحظات الأخيرة من العرض، تحلّق الشخصيتان فوق كل شيء، تبصقان على الأسفل بفرح... ثم ترقصان. اختطاف لن يطول. الجرافات ستعيدهما إلى الأسفل، إلى قعر الموت حيث نداءاتهما المستغيثة. تخرق بقعات الضوء عتمة المجهول. تجد الأم ابنها بين يديها، تضمه، وتقول له: «بتتذكرني؟ هل مرة مش رح إتركك». لكن سراب الطفل يقرر ترك أمه، فيتساقط تراباً من بين يديها. شاهدنا «بنفسج» عام 2009. خلنا يومها أنّ العرض يتكلم على أجساد الحروب السابقة في لبنان والعراق... وخيّل إلينا أنّه يتكلم على ماضينا. اليوم بعد ثلاث سنوات، نسمع في العمل أنين الذين ماتوا تحت ركام مبنى فسوح ونداءات مستغيثة من تحت الأنقاض والدفاع المدني يحمل جثة امرأة، ليدفنها في حقل «بنفسج»، ومبنى آخر سقط بالأمس في الإسكندرية... وأجساد وأجساد سقطت تحت نيران الأنظمة العربيّة. عرض أصبح اليوم ينطق بلسان كل هؤلاء.