النافذة التي كانت تفضي إلى أيقونة داكنة في العمق، والضوء المشتعل من كأس الزيت، كانا يجذبان نزار صابور الطفل إلى تلك الغرفة دون غيرها في بيت العائلة الكبير. «كان هذا المنظر هو درسي البصري الأول» يقول. رحلاته الصيفية إلى قريته الشلفاطية بالقرب من اللاذقية، علّمته درساً بليغاً آخر. هناك، كان المشهد مفتوحاً على ألوان الطبيعة، لكنّ مرافقته لشقيقته التي كانت أوّل فتاة في اللاذقية تنتسب إلى معهد للرسم أوائل ستينيات القرن المنصرم، وضعته وجهاً لوجه أمام سحر اللون والقماشة البيضاء. سوف يقتني سيبة للرسم، ويركب باصات الأرياف لاكتشاف مناظر الطبيعة الساحلية بتضاريسها. ألبومات الفنانين الروس التي كان يجلبها شقيقه الأكبر من موسكو، أثّرت أيضاً في وعيه المبكّر لأهمية أن تكون رسّاماً.
هكذا انتسب من دون تردُّد إلى «مركز الفنون التشكيلية» في اللاذقية، متابعاً رحلة اللون. في المركز، تعرّف إلى عبد الله الحلو، معلّمه الأول، كما يقول. «أهداني فضائل لا تحصى، في مقدمتها احترام الوقت، والحب من أجل الحب، وسوف أهدي لاحقاً معرضي «عن الحب» (2001) إلى هذا المعلم النبيل».
بعد سنوات، وفي «كلية الفنون الجميلة» في دمشق، سيجد أباً روحياً آخر هو فاتح المدرّس (1922 ـــ 1999). «كان تأثيره طاغياً على خطواتي، نظراً إلى أفكاره الطليعية، وتأصيله للوحة محليّة من دون ادعاءات نظريّة». في المقلب الآخر، كان النقد السوري حينذاك غارقاً في أطروحات الأصالة والمعاصرة، فيما «علّمنا المدرّس قيمة أن تكون حرّاً من دون أية سطوة
أكاديمية».
هكذا راح التشكيلي السوري الشاب يفتّش عن هويته المحلية في حواري دمشق وأبوابها والكتابات المنقوشة على جدرانها، صعوداً إلى بيوت معلولا المعلّقة في الجبال، وصولاً إلى رسوم الواسطي. حفلةٌ موسيقية أحياها عابد عازرية في صالة الحمراء في دمشق مطلع الثمانينيات، عن ملحمة «جلجامش»، قادته إلى الأسطورة العريقة، فاختار هذه الملحمة موضوعاً لمشروع تخرّجه، بالتوازي مع المقترح الموسيقي للمغنيّ السوري المعروف. «جلجامش العتمة والضوء، والحكمة الشرقية»، يقول.
في موسكو، حيث استكمل دراسته العليا، استعاد مخزونه القديم من المحترف الروسي، واكتشف عن كثب أعمال كاندنسكي، وكازيمير ماليفيتش، ومارك شاغال، متجوّلاً بين تيارات الواقعية الاشتراكية، والتجريدية، والسريالية، وما بعد الحداثة... هذا ما زاده ولعاً بتكريس نبرته المحليّة، والبحث عن ذاته، وسط الأمواج المتلاطمة للبيريسترويكا التي كانت في أوج هبوبها ليخترق جدران «بيت الفن المركزي»، أكبر صالات العرض في موسكو، إلى جانب أعمال فرنسيس بايكون، وجان تانغلي، كما اقتنت أعماله متاحف كثيرة، منها المتحف الوطني في دمشق، ومتحف فنون شعوب الشرق في العاصمة الروسيّة.
ارتبطت أعمال نزار صابور بالأيقونة الشرقية كمعطىً إضافي لبيئته الروحية الأولى، لكن من موقع مختلف. فهو حرَّرها من بعدها الديني بحذاقة لافتة، وأدخلها في نسيج الحياة اليومية. «المهم أن تكون مستعداً داخلياً، لا معرفياً، وإلا فستفشل بوصفك مقلّداً لا أكثر ولا أقلّ». ويوضح فكرته: «لم تكن الأيقونة بحدّ ذاتها هدفي. كان مشروعي يتعلّق باستخدام المعطيات المحليّة في اللوحة، فلجأت إلى بناء تعبيري يعتمد أشكال المرايا والخزائن والأبواب، ومنحها بصمة روحانية، تنتمي إلى بنائية اللوحة في المقام الأول، أكثر منها عملاً تطبيقياً». ذلك ما جعل أعماله وفق ما يقول عنها أسعد عرابي، «أشبه بحجرة عزلويّة زاهدة، أو خلوة اعتكاف تصوفيّة، مطهّرة من آثام العالم الاستهلاكي. كلّما ازداد المشاهد توحداً، انطوى على خصائص عالمه
الذاتي».
عشرون عاماً من العيش في دمشق، لم تشجّع نزار صابور على أن يغامر في إنجاز لوحة واحدة في هذه المدينة الصاخبة. ما إن تلحّ عليه فكرة عمل جديد، حتى يغادر إلى مرسمه في اللاذقية. يقول مبرراً: «روحي معلّقة هناك... المكان مسقط روح أيضاً، لا مسقط رأس فقط». قبل عام مضى، وعلى وقع الثورة التونسية، اضطر إلى تغيير عاداته، فوجد نفسه مأسوراً تحت وطأة الحدث خلال وجوده في دمشق. هكذا، انكبّ على إنجاز ثلاثية تعبّر عمّا كان يجول في ذهنه. «كنت سعيداً إلى حدّ البكاء، وقد انتابتني أحاسيس لم أعشها قبلاً، فانخرطت في رسم ثلاثية تمثّل حشوداً بشرية محاصرة بين كتلتين داكنتين، تربط بينهما مساحة من الدم. أحد الأصدقاء وجد فيها نبوءة
سورية».
الأحداث المتسارعة في الشارع العربي، أوقفته عن العمل أشهراً متواصلة، إلى أن وجد حلّاً شخصياً لهذه العطالة. «خلال تجوالي في شوارع اللاذقية، قمتُ بتصوير أوراق النعي المُلصقة على الجدران. أسماء موتى من كل الطوائف، أدخلتها في متن عمل فجائعي، لا أعلم إن كان سيُعرض يوماً». يصمت قليلاً ثم يتابع: «أشعر بالأسى على سوريتي، لم أتوقع هذه الهمجية على الإطلاق. فجأة اكتشفت أن الثقافة السورية كانت مخادعة. هل كنّا نخدع أنفسنا طوال كل هذا الوقت، لنقع تحت طائلة الدم السوري والانقسامات والتخوين؟». هكذا لجأ أخيراً إلى أشعار محمود درويش مستوحياً من عبارة «سقط القناع عن القناع» عملاً دائرياً على شكل متاهة لا نهائية، في توصيف هذا الحصار الطويل مدفوعاً بعبارة أخرى هي «حاصر حصارك لا
مفرُّ».
بدأت علاقة هذا التشكيلي مع الشعر باكراً، بوصفه رافداً أساسياً في اختيار عناوين معارضه. يتذكر أن اشتباكه الأول كان مع عبارة «جسد يهوي فتهزّه الروح»، في اقتباس من قاسم حداد، وسيتوقّف مليّاً أمام شاهدة قبر ميخائيل نعيمة ليكتب باللون: «أيها المارّ كالظل يا أخي، ما أجمل الحياة، إني كنتُ فيها سعيداً». معرضه «عن الحب» أنجزه بتأثير من جدارية محمود درويش في حواره مع الموت: «ما حياتك لا تحب، ولا تُحب، لا تموت ولا تعيش»، إلى «بوابات الروح»، و«حياة في الرماد»، و«سعادة ما أمكن». وسيوجه تحية خاصة إلى الواسطي في معرضه «عنترة زماننا»، مفتوناً بالتصاوير الشعبية ومناخاتها اللونية المشبعة بالحسّ المحلي. مقترحه الأخير «جدران تدمريّة»، مغامرة أخرى في ربط الفن السوري القديم بمعطيات الحداثة.



5 تواريخ

1958
الولادة في اللاذقية (سوريا)

1976
انتسب إلى «كلية الفنون الجميلة» في دمشق

1990
أنهى دراسته العليا في فلسفة الفن (موسكو)

1991
معرضه الفردي الأول في «صالة السيد» (دمشق)

2012
ينجز أعمالاً مستوحاة من ديوان محمود درويش «حالة حصار»