جوليا بطرس فنّانة مُقِلّة وانتقائيّة. كلّما أحيت حفلة في لبنان، يذيّل إطلالتها وقعٌ خاص. نفاد بطاقات الأمسية التي تقدّمها الليلة على مسرح «مجمّع بلاتيا» ليس مستغرباً. صاحبة «أحبّائي» حظيت بشعبية كبيرة مذ غنّت للجنوب وأهله الذين احترفوا الصمود. في وطن مموّه تحتُّه الطائفية ويزداد فيه العوز والتعسّف، اختارت جوليا أن تتقمّص وجع الناس وتتسلّح به. انحيازها إلى القضايا الوطنية والإنسانية والمطلبية المحقّة، أكسبها إذاً حظوة عند الجمهور اللبناني والعربي، إضافة إلى عوامل عديدة أخرى أمّنت لتجربتها نوعاً من الإجماع، ليس آخرها اتّزانها.
عندما يتبنّى فنّان متقِن ذو صدقيّة هموم الناس وتطلّعاتهم، ويجرؤ على المجاهرة بمواقفه، يختزل في حنجرته أصواتهم، وينتزع احترام حتّى الذين يخالفونه الرأي، ما ينطبق على قلّة من المغنّين اللبنانيين الذين يستحقّون أن يُعدّوا ملتزمين، ومن بينهم جوليا (1968).
الفنّانة المرهفة التي بدأت مسيرتها في الغناء باللغة الفرنسية في عمر باكر، (ألبوم C›est la vie)، ستؤدّي هذا المساء باقة من أغنياتها القديمة والجديدة برفقة «الأوركسترا الفلهارمونية لمدينة براغ» التي يقودها هاروت فازليان، و«كورس الجامعة الأنطونية»، ويديره الأب توفيق معتوق. تكتُّم المعنيين على برنامج الحفلة، باستثناء الأغنيات المنتقاة من ألبومها الأخير «يوماً ما»، يضطرّنا إلى تناول أغنيات الأسطوانة المذكورة حصراً.
لا تمثّل أسطوانة «يوماً ما» نقطة تحوّل في مسيرة جوليا، بل استكمالاً لما بدأته منذ أكثر من 25 سنة. يشتمل الألبوم على سبع أغنيات ومحطّتين موسيقيّتين من ألحان زياد بطرس، وتوزيع ميشال فاضل. لا مجال للمقارنة بين أسلوبَي ميشال فاضل وعبود السعدي الذي أسهم أيضاً في تلوين أغنيات جوليا وتظليلها في مرحلة سابقة. إضافة إلى «الأوركسترا الفلهارمونية لمدينة براغ»، شاركت في تنفيذ الألبوم مجموعة من العازفين اللبنانيين (بقيادة هاروت فازليان)، أبرزهم جهاد أسعد (قانون)، ورائد بو كامل (ناي)، وإيلي نجيم (ترومبيت)، وعلي الخطيب (رِقّ)، وإبراهيم جابر (إيقاعات). ترتكز أغنية «يا ما شالله» على إيقاع «الوحدة المقسومة» عموماً. وتدور حول مقام العجم الذي تبدو الدرجة السابعة فيه مخفوضة أحياناً، فيختلط الـ mixolydien بالماجور في بعض الجمل، إضافة إلى المحطّات التي تتأرجح بين مقامَي الحجاز الحديث والزنجران. يبرز دور القانون آلةً منفردة في مستهلّ الأغنية وبعض فقراتها. في نسختَيها الأولى والثانية، تنمّ «يا ما شالله» عن تمرّس جوليا التي تتنقّل بسلاسة بين صوت الصدر والصوت المستعار (صوت الرأس)، مستعينةً بصوت الحنجرة. تلجأ إلى الصوت المستعار، لا لبلوغ الطبقات العالية فحسب، بل أيضاً لنسج مزاج وجوّ معيّنين في الأغنية.
الإحساس بالضيق والغربة والحنين إلى الوطن داخل الوطن يطبع أغنية «وطني» (شعر فادي الراعي) التي تختزل انكسارات وتناقضات مزمنة، وتعكس إشكاليات راهنة، بأسلوب لا يخلو من البساطة: «صار الفرح بلون الكذبة/ لمّا بوطني عشت بغربة/ وما عدت أعرف حدا». الأمر نفسه ينسحب على أغنية «يوماً ما»، مع فارق أنّها تختزن مقداراً من التفاؤل والفكاهة، وتجمع بين الوطني والعاطفي: «على رغم الجوّ المشحون/ تبعاً للظرف المرهون/ مطرح ما عيونك بتكون/ بحلم شوفك يوماً ما/ بُكرا بيخلص هالكابوس/ (...)/ وعلى أرض الوطن المحروس/ رح نتلاقى يوماً ما». أمّا أسلوب توزيع أغنية «شو الحلو فيك»، فيقرّبها من مناخات العديد من أغنيات زياد الرحباني، مع فارق أنّ زياد أكثر تفرّداً وابتكاراً، فيما يذكّر نصّ أغنية «أَطلِقْ نيرانك» (نبيل أبو عبدو) بالقصائد والأغنيات التعبوية التي راجت في الثمانينيات، لناحية القوافي والإيقاع وصيغة الأمر: «أَطلِقْ نيرانك لا ترحم/ (...)/ ذكِّر أعداءك إنْ غفلوا». هذا الأسلوب الذي يستمدّ «شرعيّته» من تجربة المقاومة، والثورات العربية، والقضية الفلسطينية التي لن تتخثّر مهما طال الزمان، يحيلنا إلى أغنية «انهضْ للثورة» لمرسيل خليفة، وقصيدة «حاصِرْ حصارك» لمحمود درويش. تندرج بعض أغنيات الألبوم في خانة البوب، فيما تتأرجح بعض المحطّات الغنائية بين «الأنشودة» والأغنية.
مثل معظم أسطوانات جوليا، لا تخلو «يوماً ما» من رومانسية ممزوجة بأسى واقعي، وثورية خالصة في مرحلة دقيقة يُخشى أن تنخر نبلها ومنجزاتها الثورات المضادة. الأغنية الأنجح لحناً ونصّاً وأداءً هي «مقاوم» (من كلمات جواد نصر الله)، وتتغنّى بالنصر البطولي الذي أحرزته المقاومة في لبنان. لكن كيف يمكن صوْن هذا الانتصار وإثماره في ظلّ نظام طائفيّ يمسخ وطناً أشبه بمزرعة مستباحة؟

جوليا بطرس: 9:00 ليل اليوم ـــ «مجمع بلاتيا» (ساحل علما ــ شمال بيروت) ــ للاستعلام: 01/999666



ضخامة وإتقان

«لم يقع الاختيار بعد على أغنية من الألبوم لتصويرها على شكل فيديو كليب» تقول المخرجة صوفي بطرس، شقيقة جوليا، مضيفةً إنّ «حفلة «بلاتيا» يمكن أن تصدر لاحقاً على «دي. في. دي» على غرار حفلة جوليا في كازينو لبنان». وأكّدت بطرس أنّ حفلة «بلاتيا» تتميّز بالإتقان والضخامة «لناحية الديكور والإخراج والبرنامج والتوزيع».