لا نعرف الكثير عن الشعر الإيراني المعاصر. تكاد معلوماتنا تقتصر على أسماء أساسية مثل نيما يوشيج (1895 ـــــ 1959)، وأحمد شاملو (1925 ـــــ 2000)، إلى جانب ترجماتٍ متفرقة لشعراء آخرين في بعض المجلات والمواقع الإلكترونية. داخل هذا السياق، نستقبل ديوان «السطور تغيّر أماكنها في الظلام» (دار الغاوون) للشاعر الإيراني كروس عبد الملكيان مثل هدية مفاجئة. لعلها سابقة أن يُنقل ديوانٌ كامل لشاعر إيراني شاب (مواليد 1980) إلى لغة الضاد، والفضل في ذلك يعود إلى شاعرٍ إيراني آخر هو موسى بيدج (1956) الذي يترأس تحرير فصلية «شيراز» المتخصصة بترجمة الأدب الفارسي إلى العربية. ترجم بيدج من العربية إلى الفارسية وبالعكس، وها هو يقدم شاعراً صاعداً بقوة في الشعر الإيراني الراهن.

أصدر عبد الملكيان ثلاثة دواوين طُبعت أكثر من مرة، ولاقت حفاوة مستحقة من النقاد والقراء. نقرأ قصائده، فتصلنا تلك الحفاوة مترجمة إلى العربية أيضاً.
تُنسينا الترجمة الجيدة أننا نقرأ قصائد إيرانية إلى حد أننا لا نجد صعوبة في معاملة صاحبها كأي شاعرٍ جيد من شعرائنا الشبان. مناخات القصائد وموضوعاتها تجعلان هذا التشابه ممكناً ومغرياً أيضاً. يكتب عبد الملكيان قصائد قصيرة تخلط مشهديات الواقع اليومي بتأملٍ فلسفيٍّ شفاف. خلطة تسهِّل رفع عاديات الواقع ومهملاته إلى صورٍ واستعاراتٍ جذابة. أحياناً يحدث ذلك في قصيدة كاملة كما في «فلاش باك» التي يقترح فيها سيرة مقلوبة للكون: «دعنا نُرجع الفيلم إلى الوراء/ ليصبح معطفُ الفرو خلف الفيترينة/ نمراً يركض في السهول البعيدة/ لتعود العكازات إلى الغابة/ سيراً على الأقدام/ والطيور على الأرض ثانيةً/ والأرض.../ كلا/ عُدْ إلى الوراء أكثر/ دع الله يغسل يديه ثانيةً/ ويلقي في المرآة نظرة/ لعله يتخذ قراراً آخر». النبرة الكونية تذكِّرنا بالحضور القوي للتقاليد الشعرية الفارسية، وهي تُخترق بممارسات جديدة تستثمر الموروث والترجمات معاً، وتميل أكثر فأكثر إلى لغة يومية متخففة من أثقال الفصاحة والجزالة.
النبرة ذاتها موجودة في قصائد أقصر كما في «تخطيط 6»: «عبثاً تضرب بقبضتك على زجاج هذا القطار/ عبثاً تقذف بصوتك عبر النافذة/ نحن/ ممثلون في فيلم صامت»، أو في قصيدة «بلا عنوان»: «ربِّتْ على كتفي/ كي تنفض عني وحدتي/ علامَ تعقد الأمل/ على نفضِ الثلج/ عن كتف رجل الثلج؟».
ثمة حيلة لغوية مدسوسة في أغلب قصائد الديوان، بينما التأمل والكثافة يمنحانها حضوراً عذباً. هناك تفاوت في الجودة، لكن المقاطع والاستعارات المنجزة بحساسية وذكاء تطرد إحساسنا بالتفاوت، وتُطيل احتفاءنا بالدهشة المتولدة منها. هكذا، نقرأ صوراً مثل: «كنتُ مستلقياً/ وزوجتي تقرأ قصيدة عن الحرب/ فأوشكت الدبابات/ أن تجتاح سريري» أو: «كم هو محزنٌ/ حين يقدمون لك مظلة/ في المطر».
في مقاطع الحب، تعلو تلك الحساسية أكثر من دون الوقوع في الابتذال العاطفي. قد يكون المقطع مديحاً بسيطاً لامرأة: «ثوبكِ يرفرف في الريح/ وهذا هو/ العلم الوحيد الذي أهواه». وقد يكون المديح نفسه مصحوباً بتأملٍ أعمق: «يدايَ/ غير قادرتين/ على تقسيم هذه التفاحة بالتساوي/ أنتِ تفكرين بنصيبكِ منها/ وأنا أفكر بنصيبكِ منها».