منذ الصفحات الأولى لـ «أساتذة الوهم»، أدركت أنني أطلّ على عمل مدهش وآسر. يأسر علي بدر القارئ، ليس بسحر أسلوبه وثقافته، بل بالعمق الإنساني والوجداني في قراءته للحياة الإنسانية. موضوع الرواية بسيط ومشحون بالشجن. إنه عن مجموعة شعراء عراقيين هم جنود في الوقت ذاته. فكرة تبدو بسيطة، بل مسليّة أيضاً، كما لو أنّه من الممتع أن يجري الجمع بين البندقية والشعر. برع علي بدر في تحليل شخصيات الشعراء المجندين، لكنَّ البطل الرئيسي في الرواية هو عيسى، المولع بقراءة سير الشعراء الغربيين، الذي تعلّم الروسية والألمانية ليقرأ أعمالهم. كان كلّ وجود عيسى يتلخّص في كلمة واحدة هي الشعر، لكن ثمّة إرادة عليا فصّلت له قدره وشخصيته بجعله جندياً، وزجت به في الجبهة، ليجد نفسه مشروعاًَ للموت في الحرب العراقية الإيرانية.
عيسى لا يمثل الشاعر فقط، بل إنسان اليوم أيضاً، وخصوصاً في الأنظمة الاستبدادية. لا يمكنه أن يكون ذاته، ولا أن يحقق ما تتوق إليه روحه، لأن هناك قوة تهرس إرادته، وتشوه موهبته. وكما يقول علي بدر على لسان عيسى: «هناك شخص واحد، دكتاتور، قائد أمة، مُخرج يقف أعلى مسرح يحترق، والشعب ممثّلون يتابعون إلقاء أدوارهم، وهذا القائد هو صدّام حسين».
يُنكر عيسى حياته كجندي، فهو يتماهى مع بودلير وإليوت وغيرهما من الشعراء العالميين، ويتساءل: «هل يمكننا أن نكون شعراء عالميين ونحن في بغداد؟» يقرّر عيسى الفرار من الجيش والعيش متخفياً ومتسلّحاً بكتب الشعر.
الشعر بالنسبة إليه هو المُخلّص من عدمية الحياة والجبهة. يعيش في أزقة الفقراء، يقرأ ويحلم ويكتب ويترجم. عيسى الذي سكن في علب الصفيح البائسة، هارباً من حكم الإعدام الذي صدر بحقه كخائن، قرأ مذكرات غاندي، ورسائل نهرو إلى ابنته، وكان يريد قراءة طاغور قبل تنفيذ حكم الإعدام به. كيف يمكن لإنسان مرهف الإحساس وشاعر مبدع أن يموت تحت لافتة الخيانة العظمى؟ يُعدم عيسى، ويموت أصدقاؤه الشعراء ميتات مختلفة، لكنهم جميعاً ضحايا حروب الكبار، إنّهم جنود رغماً عنهم، فصّلوا لهم الثياب العسكرية وأعطوهم بنادق، وقذفوا بهم إلى الجبهة. يطرح علي بدر في «أساتذة الوهم» أسئلة وجوديّة ومصيريّة مهمة: هل يملك إنسان اليوم نفسه؟ أليس مُصادر الإرادة؟ إنسان اليوم يُقتل بكل بساطة إذا خالف القوة العظمى، إذا تجرأ ورفض القدر الذي فصّله له الدكتاتور، والتّهم جاهزة، كإضعاف الشعور القومي، والخيانة، والمسّ بهيبة الدولة...
ذكرتني «أساتذة الوهم» بمسرحية لهنري إبسن هي «ثورة الموتى» عن جنود يرفضون أن يدفنوا، لأنّهم يريدون أن يعودوا إلى زوجاتهم وحبيباتهم وأولادهم. «أساتذة الوهم» تخضّنا في العمق، وتقذف بنا إلى قلب الحقيقة، وتفجر فينا حسّ الكرامة التي لا معنى لوجودنا من دونها: إلى أيّ مدى سنقبل أن نكون أداة في يد قوى عظمى؟
* روائية سوريّة