تستقبل لوحة هيلدا حياري (1969) مكوناتٍ وعناصر مختلفة يمكن إنجازها بتقنيات مختلفة أيضاً. إنها حصيلة مزاج شخصي وارتجالاتٍ وجدانية وذهنية. المزاج الارتجالي المصحوب بعنفٍ واضح في استخدام المعجم اللوني، يقرّب أعمالها من مناخات التجريد والغرافيتي والبوب آرت. لا تغيب المذاقات الواقعية والتشخيصية عن هذه الأعمال، إلا أنها خاضعة لتعديلاتٍ تُشتِّت حضورها الواقعي أو تستبدله بالطاقة التعبيرية واللونية التي يبثّها هذا الحضور. التعديلات ليست خاضعة لتسلسل منطقي، بل نتيجة لتراكم طبقات لونية تجفُّ كي تُدفن أجزاءٌ كبيرة منها تحت طبقات تالية. يحدث ذلك بضربات الفرشاة المصحوبة بتقنيات التبقيع والرشق والزخرفة والخدش والحرف العربي. لقد فعلت الرسامة الأردنية هذا منذ بداياتها غير الأكاديمية منتصف التسعينيات واستمر ذلك بعد دراستها الأكاديمية.
معرضها «نبضات 2» في «غاليري أيام» ـــــ الثاني لها في بيروت ـــــ يمثّل لحظةً تشكيلية طبيعية في سياق تجربتها. لا نرى تغيراتٍ حاسمة في تقنيات شغلها، ولا تبدلاً في منطق تأليف اللوحة. ما تغير هو الموضوع فقط. تلتقط حياري اللحظة السياسية التي فجّرتها الثورات والاحتجاجات العربية الحالية، وتحوِّل الرسم إلى شهادة على ما يحدث. «المعرض هو نبضاتي أنا، وإحساسي الشخصي تجاه انتفاضة الشعب العربي في أكثر من بلد»، تقول الرسامة التي يبدو أنها وجدت في الغليان الجماهيري «معادلاً موضوعياً» للغليان اللوني في أعمالها. كأن «ثورات» مزاجها النفسي والذهني تتمرى في ثورات المزاج الشعبي. يضم المعرض 12 لوحة بقياسات كبيرة، ومنفذة بالإكريليك المتداخل أحياناً مع وسائط أخرى. عناوين اللوحات لا تتستّر على مكوناتها. إنها واضحة ومباشرة كما هو الحدث صارخ ومباشر. في لوحة «أم كلثوم»، تختصر «كوكب الشرق» الثورة المصرية. فمها المكمَّم في اللوحة رمزٌ معكوس لملايين الحناجر التي هتفت بسقوط النظام في ميدان التحرير، بينما كلمة «الشعب» المطبوعة على جبينها ترفع صوت أغنيتها الشهيرة «أنا الشعب» في ذاكرتنا.
لوحة «درعا والرمثا»، توثِّق علاقة الرسامة بما يحدث في البلد الأقرب وجدانياً وجغرافياً إلى بلدها. نرى شخصي اللوحة متحاذيين كحال المدينتين اللتين شهدتا نزوحاً من الأولى إلى الثانية بسبب الأوضاع المتفجرة في سوريا. أما لوحة «عمَّان»، فتتسيّدها امرأة حبلى في إشارة إلى الاحتجاجات المتقطعة التي يشهدها الشارع الأردني. كأن الثورة التي انطلقت في بلدان عربية أخرى لا تزال جنيناً في مسقط الرأس. في لوحات أخرى، تتجلى تفاصيل أخرى مجاورة للحدث الراهن. هكذا، نرى شهيداً في لوحة «أحمد»، وجسداً محكوماً بقدمين متدليتين من الأعلى في لوحة «التابع»، وشخصاً يبصق على عمودٍ شاقولي مؤلف من قصاصات الصحف التي تصبح تأويلاً لتضارب الأخبار وانتقاداً لتعامل الإعلام مع ما يحدث في الشارع العربي. ونرى معتقلاً سياسياً في لوحة «السجين»، وجسداً مقسوماً إلى نصفين في «تفكيك» مجازي ومتخيل لاحتمالات «تقسيم العالم العربي أو الشرق الأوسط» بحسب تعبير حياري.
في المقابل، الصراحة الواضحة والفجّة في موضوعات اللوحات لا تُخفي الممارسات المتعددة المبذولة في إنجازها. العناوين الضاغطة والحارة لا تمنع زائر المعرض من معاينة الطموحات الفنية فيها. أنجزت هيلدا حياري سردية تشكيلية تترجم تأثرها واحتفاءها بالثورة. لكن الثورة ليست كل شيء. اللوحات في النهاية، ليست مساحاتٍ مغلقة في وجه مهاراتها وأسلوبها. بل إنّ الثورة كحدثٍ متفجر وممتلئ بالاحتمالات جاء متطابقاً مع التفجرات اللونية وتشظي الأشكال التي سبق أن رأيناها في مجمل أعمالها.
هكذا، تتراءى لنا لوحة «أم كلثوم» كنسخة شخصية معاصرة من نسخة آندي وارهول لمارلين مونرو، بينما تُظهر اللوحات الأخرى شغف حياري بالإصغاء إلى حركة الواقع وموجودات الطبيعة، والعمل على «تضاريس مجازية»، حيث اللوحة «شهادة لحظية على الزمن الذاتي والزمن العام». حياري الحائزة جائزة «بينالي القاهرة» عن عملها «طرابيش» (2006)، قدّمت أعمالاً تجهيزية وفيديو آرت، وعُرضت أعمالها في عواصم عربية وأجنبية. القياسات الكبيرة تستهويها وتمنحها فضاءً أوسع لإطلاق انفعالاتها. تقول إنّها اعتادت تقديم أعمال ضخمة. «حتى أثناء مشاركاتي في ورشات فنية خارج الأردن، أختار مساحة كبيرة لعملي». تذكِّرنا بجدارية «كرنفال الربيع» (150 متراً) التي أنجزتها ضمن فعاليات «عمان عاصمة الثقافة العربية» عام 2002. كأنها تقترح على المتفرج أن يلصق لوحات معرضها الحالي كي تصبح جدارية متخيلة للثورات العربية.

هيلدا حياري: «نبضات 2» ـــ حتى 13 شباط (فبراير) ــــ«غاليري أيام»، بيروت ـــ للاستعلام: 70/535301



مع التغيير ولكن ...


تقرّ هيلدا حياري (الصورة) بأنّها ليست متفائلة بـ«الربيع العربي» بالمطلق. «أنا مع التغيير، ومع المطالب الشعبية، لكن ذلك لا ينفي خوفي من أخذ الثورات إلى مصير آخر. لستُ سياسية محترفة، أنا معنيّة بتوثيق آلام الناس في أعمالي». لعل ثلاثية «أنا عربي (ة)» تختزل نظرة الرسامة، حيث نرى ثلاثة بورتريهات ضخمة تكتظّ ملامحها بجروح الماضي.