لم يمهل القدر ثيو أنجيلوبولوس (1935 ـــــ 2012) ليكمل فيلمه «البحر الآخر». رحل المعلم اليوناني الكبير أول من أمس في مستشفى قرب ميناء بيريوس (غرب أثينا) بعدما صدمته دراجة نارية بالقرب من موقع تصوير «البحر الآخر» الذي يدور حول الأزمة الاقتصادية في اليونان وأوروبا. نهاية تراجيدية لأحد أبرز رموز «السينما اليونانية الجديدة»، وأهم حكواتيي الفن السابع. أمس، وصف جاك ماندلباوم في «لوموند» صاحب «الإسكندر العظيم» بـ«الابن البار لبلد شكّل مهد التراجيديا الإغريقية، قبل أن ينوء تحت ثقل الحرب الأهلية وحكم الجنرالات، وأزمات القرن الحادي والعشرين. هذا السينمائي المخضرم كتب ملحمته الخاصة حيث الشعرية والجمال مخضّبان بالدم وانحدار التاريخ المعاصر».
أعمال أنجيلوبولوس مطبوعة بطفولته، وما عاشه من اضطرابات سياسية في موطنه. سينماه مرآة لأسئلة كثيرة في التاريخ اليوناني المعاصر. وسط عائلة من الطبقة الوسطى، ولد صاحب «نظرة عوليس» تحت حكم ميتاكساس الفاشي. والده اعتُقل عام 1944 لعدم دعمه الحزب الشيوعي. درس لفترة في معهد الـ IDHEC السينمائي في فرنسا قبل أن يطرد منه. بعدها، عاد إلى أثينا ناقداً سينمائياً في جريدة يسارية. في 1970، أنجز باكورته الطويلة «إعادة إعمار» عن مقتل رجل على يد زوجته وعشيقها بعد عودته من ألمانيا حيث كان يعمل. في هذا الشريط الذي استوحاه من عودة والده من الاعتقال، نشاهد ثيمات ثيو الأثيرة: تاريخ بلده، وذاكرته الحبلى بالأحداث المأساوية، والحياة الريفية في بلده.
بعد هذا، عبرت أعمال أنجيلوبولوس مراحل عدة كما وصفها مرة. المرحلة الأولى اتسمت بأفلام إيديولوجية وسياسية. في «أيام سنة 36» (1972)، تدور الأحداث قبل وقت قصير من بداية حكم ميتاكساس الفاشي. وفي «الممثلون الجوالون» (1975) يجوب مؤدون مدن اليونان في محاولة لتأدية مسرحية إيروتيكية، مارين عبر مراحل فاصلة في تاريخ البلد بين 1939 و1952 من حكم ميتاكساس والحرب مع إيطاليا والاحتلال النازي إلى التحرير والحرب الأهلية. بعد ذلك، أنجز «الصيادون» (1977) عن صيادين يكتشفون بقايا محارب يشبه صورة يسوع، ليقضوا ليلتهم مسترجعين ماضيهم وماضي اليونان الأليم. بعد هذه الثلاثية، دخل ثيو مرحلة جديدة مقرّباً عدسته من الحالة الإنسانية مع إبقاء التاريخ والتحولات السياسية في الخلفية. هكذا، أنجز أفلاماً تعنى بدراسة مقرّبة لسيكولوجية الإنسان اليوناني في ظل الواقع المحلي السياسي: «رحلة إلى كيثيرا» (1984) عن شيوعي يعود إلى اليونان بعد عقود في المنفى، و«مربّي النحل» (1986ـــ بطولة مارشيلو ماستروياني) عن مدرّس يترك كل شيء ويعمل مربياً للنحل، محاولاً إيجاد نفسه بين ماضيه وتاريخ اليونان الحديث. وفي «منظر في الضباب» (1988)، يحاول ألكسندر وأخته العثور على والدهما الذي قيل إنّه يعيش في ألمانيا، فتأتي رحلتهما السحرية مرآة لمجتمع مليء بالإحباط والفشل. عام 1991، شُغل أنجيلوبولوس بفكرة الحدود. في «الخطوة المعلقة لطائر اللقلق»، نشاهد المراسل أليكساندر الذي يعمل في بلدة على الحدود اليونانية التركية، حيث سكانها من المهاجرين. يعلّق ثيو هنا على وهمية الحدود المختلقة. في «نظرة عوليس» (1995)، يؤدي هارفي كايتل دور «ألف» المخرج الأميركي اليوناني الذي يعود إلى اليونان باحثاً عن بكرات سينمائية مفترضة للأخوين ماناكيس اللذين صوّرا فيلماً عن تاريخ منطقة البلقان غير عابئين بالحدود التي قسّمتها السياسة. ثم أتبعه بـ«الأبدية ويوم واحد» (1998ــــ السعفة الذهبية في «مهرجان كان») عن الكاتب ألكسندر المعتلّ الذي يمضي آخر أيامه في مستشفى، ثم يلتقي بطفل ألباني يرافقه حتى الحدود في رحلة تعكس الماضي والحاضر.
في المرحلة الأخيرة التي لم يكملها، بحث أنجيلوبولوس في قدر الإنسان: «المرج الباكي» (2004) عن قرية قرب ثيسالونيكي (ثاني أكبر مدينة في اليونان) وتأثّر علاقات سكّانها بحلول الحرب. وفي «غبار الزمن» (2009)، أدى ويليام دافو دور مخرج أميركي يوناني يصنع فيلماً عن تاريخ عائلته المتشعب.
النظرة إلى مسيرة أنجيلوبولوس تظهر التشابه في الثيمات. علاماته السينمائية مميزة، لقطات طويلة تأملية وصبورة للشخصيات والمناظر الطبيعية في ظروف مناخية قاتمة ومضطربة تعكس الحالة الإنسانية التي شكلتها ظروف الزمن الذي ينقلنا عبره، مع موسيقى بارعة اختارها مع رفيقته الدائمة إيليني كاريندرو. في اهتمامه بتاريخ الإنسان، وروايته لتاريخ اليونان المضطرب، رواية لتاريخ الإنسانية كلّها. بعد «غبار الزمن»، قال للصحافة إنّ أفلامه فصول من فيلم واحد، من كتاب واحد يروي قدر الإنسان. قدر ثيو أن لا يكمل فيلمه كأنّنا به أوديسة لا تنتهي في تاريخ الفن السابع.



إعادة اختراع العالم

هاجس سياسي طبع أفلام ثيو أنجيلوبولوس الأولى قبل أن تأخذ أعماله اللاحقة طابعاً وجودياً. في السبعينيات، شُغل السينمائي اليوناني برغبة جامحة في تحطيم النظام السياسي القائم في بلاده. استعار لذلك الكثير من لغة الملاحم الإغريقية القديمة، فاستعان بشيء من الغنائية لمعالجة قضايا التاريخ المعاصر، وذاكرة بلاده الجريحة. في الثمانينيات، راح يبحث في غياهب التاريخ الفردي. أمعن صاحب «الأبدية ويوم واحد» الحفر في استعاراته الصوريّة الكبيرة، وأبرزها فكرة الترحال. في أعماله الأخيرة، طغت نبرة تأمليّة، متطلّبة جداً تجاه السينما والسياسة والفنّ. بناه السرديّة معقدّة تميل إلى إعادة اختراع العالم، بوصفه مادةً للفكر، والخيال، ومسرحاً يتعايش فيه الواقع والخيال، والحقيقة والأسطورة...