القاهرة | بعد عام على اندلاعها، بدت «ثورة 25 يناير» مثل «معرض مفتوح» على الخيال. الشعارات التي رفعها المتظاهرون، والنكت التي أنتجها المصريون خلال الانتفاضة، تشير الى أنّ راية الخيال لم تسقط بعد. تنافس الجميع على ابتكار أدوات للتعبير عن مواقفهم السياسية بطريقة جمالية. تفاوتت القدرات، لكنّ فرص العرض تساوت، ومعها فرص النقاش حول الإنتاج الفني المعروض ومحتواه السياسي الجمالي. وتلك فرصة لم تتح لفنانين محترفين قدّموا أعمالهم في أهم صالات العالم.
استعادت الثورة فنوناً كادت أن تغيب أو تهمَّش، مثل مسرح الشارع، الذي كان سمة رئيسية خلّفتها أجواء الأيام الـ 18 التي قضاها المصريون في ميدان التحرير قبل سقوط مبارك. بعدها، شُغل الفنانون في ما يمكن أن يقدَّم إلى الثورة، فاستعاد أحمد أسماعيل ــ المخرج المنغمس في ابتكار المسرح الشعبي ـــ طاقته وأنجز مسرحاً تسجيلياً يذكِّر المصريين بماضيهم الثوري. هكذا، ظهر عمله «حكايات الناس في ثورة 19». واتكأت ليلى سليمان، التي اتسمت أعمالها بحس طليعي مغاير، على سمات المسرح التسجيلي التحريضي كما بشّر به بريخت، فقدّمت عرضها «دروس في الثورة». ونشطت فرقة «حالة» التي كانت السباقة في التأكيد على حيوية مسرح الشارع، عبر تقديم عروضها في فضاءات عامة حرّرتها الثورة.
الناظر الى تجمّعات المثقفين والفنانين في التظاهرات التي حملت عنوان «الفن ميدان»، التي نظمها «ائتلاف الثقافة المستقلة»، لن تغيب عنه الطاقة الكرنفالية المهيمنة على هذه الاحتفالية، التي وسّعت مساحات الحوار بين الفنانين والجمهور العادي، كما لن تغيب عنه روح التحدي الكامنة وراء فكرة الاحتفالية، التي راهنت على النزول بالفن الى الشارع، وسعت الى تأكيد مقولة «الشارع لنا»، التي وردت في أغنية قديمة لصلاح جاهين. هذه الروح تعاظمت بعد نتائج الانتخابات البرلمانية التي جاءت بأغلبية إسلامية إلى المجلس، تملك تصوّرها المحافظ للفن والإبداع، فكان النزول إلى الشارع أولى خطوات المواجهة.
في هذا السياق، يتغاضى بعضهم عن الشرط الجمالي في هذه الأعمال الفنية لحساب المضمون والفحوى والهدف السياسي. ويدرك الجميع أنّ الفن بات الآن أداة اشتباك مع واقع معقد، تبدّل أكثر من مرة بين لحظات اليأس والأمل والرجاء، التي كان يستحيل معها التقاط الأنفاس والتوقف لتأمل ما يجري أو إنجاز عمل بصري ذي مقومات فنية قادرة على القفز فوق تلك اللحظات. هكذا يقول الفنان أحمد اللباد، الذي أنجز مجموعة من الملصقات عما كان يجري في الميدان، لكنّه رفض تحويل تلك اللوحات إلى مادة للاستهلاك السريع. ولم يكن مهتماً بنشرها جماهيرياً أو استغلالها كـ «موتيفات» بصرية على أغلفة الكتب التي يصمّمها. لقد اكتفى مثل غيره بالفن كوسيلة لتوثيق اللحظات التي عاشها في الميدان، والاشتباك معها على طريقته، أو كما يقول «أردت فتح طريق لتعامل مغاير مع الثورة كفعل جمالي».
وفي قلب هذا الفن، يبدو «فن الغرافيتي» الأكثر فعالية، لأنّه فعل احتجاجي يتجدد باستمرار، ويقوم على صدمة جمالية مباشرة تستوقف الناظر مهما كانت خبراته الجمالية والإنسانية. في مختلف ميادين مصر الآن، هناك «موتيفات» غرافيتية تسخر كلها من حكم العسكر، وترفع شعار «كاذبون»، وهو شعار أُعِدّ بطريقة احترافية لافتة للنظر، إذ يظهر حرف «الكاف» فوق «قبعة الرأس العسكرية». وفي الأسفل، مشهد سحل الفتاة المصرية في الميدان على أيدي الجنود، إضافة الى هذا المشهد، تجلّت صور أخرى تظهر قائد الشرطة العسكرية المصرية تحت كلمة «مطلوب»، تجاورها أيقونات بصرية تخلد شهداء الثورة مينا دانيال أو الشيخ عماد عفت. ولم ينس فنانو الغرافيتي إضفاء سمة كاريكاتورية على أعمالهم، من خلال إظهار أيقونات للنجمة الراحلة هند رستم، وتحتها كلمة «كده برضه يا سونة يا خاين» في سخرية من مرافعة محامي مبارك خلال محاكمته. وبالمثل، ثمة أيقونات أخرى للممثل توفيق الدقن، مذيلة بعبارته الشهيرة «أحلى من الشرف مفيش»، والهدف دوماً السخرية من وعود المجلس العسكري.
لكن عمل فناني الغرافيتي لم يكن سهلاً. عملية محو الأثر مستمرة. رجال الأمن والبلديات جربوا أكثر من مرة القبض على بعض هؤلاء الفنانين ومطاردتهم، فسُجن علي الحلبي لأيام، وأُلقي القبض على «جنزير»، أشهر فنان غرافيتي في مصر اليوم. غير أن كل تلك الأفعال لم تبطل فكرة المواجهة الصادمة في هذا الفعل الفني، الذي يتجلى هذه الأيام من خلال أسبوع أطلق عليه منظموه تسمية «أسبوع الغرافيتي العنيف».
في المقابل، لم توقف أجهزة الدولة البوليسية عمليات «محو الأثر» التي تعيشها الشوارع، وهي تتعرض يومياً لعملية محو رهيبة لآثار الثورة. باسم التنظيف، تبدأ «الإزالة». وبزعم التجميل، بدأت عملية الاعتداء على التاريخ الجديد. حتى إن كثيرين رأوا أن دعاوى تطوير ميدان التحرير كانت اعتداءً شخصياً على المخيلة.
في تفسيره لظاهرة «الغرافيتي»، يفرّق التشكيلي محمد عبلة بين عمل فنان الغرافيتي في العالم العربي وعمله في الغرب. هناك، يحتجّ الفنان عبر تشويه الجمال البارد ومواجهة الزيف والتنميط. وبالتالي، فهو عمل ثوري من وجهة نظر صاحبه. أما «في عالمنا العربي، فالكثير من الشوارع لا تحتاج الى التشوهات، فهي مشوهة بما يكفي. وفي أحيان كثيرة، يأتي الغرافيتي ليجمِّلها ويخفّف من قبحها. وبالتالي، يفقد هذا الفن الكثير من قيمته الدلالية. وبالتالي لم يعدّه بعض الفنانين «ممارسة ثورية»، ولا سيما أنّ أحداث الثورة خلّفت مشاهد حية كانت أقوى من الغرافيتي الذي وثّقها وأرّخ لها».
فنان آخر من جيل أصغر هو عمرو الكفراوي. المصمم الغرافيكي يحذّر من الخلط بين نبل الأهداف التي تقف وراء طموح الفنانين وطبيعة الإنتاج الفني. ويرى أنّ تلك المبادرات ينقصها الدور المؤسسي، الذي يسهم في بلورتها. الدور المؤسسي الذي صنعته الدولة على مدى ٣٠ عاماً، أسهم ـــ كما يرى الكفراوي ــ في إعلاء قيم سطحية وتقديمها باعتبارها الفن الرسمي. وبالتالي من الواجب إعادة النظر فيه وتصويبه. «كما أنّ من الواجب أيضاً مراجعة موقفنا من الأعمال التي أنتجت بدعوى مناصرة الثورة، وتحوي قدراً من المباشرة التي تنعكس سلباً على جماليات العمل الفني مستقبلاً»، وكما يؤكد الكفراوي، فإنّ خلق أعمال فنية تعبّر عن الأحداث المفصليّة في تواريخ الشعوب، يحتاج الى فترات زمنية طويلة من البحث والتحليل والتأمل. وأخيراً، فإنّ دور الفنانين في تلك المرحلة يحتاج في الأساس إلى محاربة الأفكار القديمة الرثة، ومحاولة تحريك الساكن داخل النظام نفسه، تمهيداً لمرحلة جديدة تستوعب الفنون الملهمة والمعاصرة لتكون أداة ضمن أدوات التقدم والتنوير.