القاهرة | أجهزت أم محمود على أصحاب الشعارات السياسية في مصر قبل 25 يناير 2011. بائعة الجرجير والبصل في شارع ناهيا (حي بولاق الدكرور الشعبي)، صرخت في وجه نشطاء اليسار الذين سّيروا أولى تظاهرات الثورة المصرية عند الحادية عشرة صباحاً. مرّ الثوّار أمام قفصها الخشبي، فأوقفتهم. رفعت رغيفاً من الخبز. «قولوا عيش. قولوا حرية يا أولاد مصر العربية». لا تملك المرأة الفقيرة ما تخاف عليه. نادت كل البائعات في السوق الشعبي. لم يسألنها شيئاً. انطلقن وراءها، وتقدّمت هي تظاهرة الشباب رافعة رغيفاً في يد، ومطلقة بالأخرى هتاف الثورة الأوّل: «عيش. حرية. كرامة إنسانية».
في الثانية عشرة ظهراً، انضمّ عشرات الآلاف من المواطنين إلى المسيرة الحاشدة. كان طرفها الأوّل يبدأ عند قفص أم محمود، ويصل طرفها الآخر إلى كوبري قصر النيل المقابل لميدان التحرير. راحوا يرددون: «الحرية لشعب مصر»، «يسقط حسني مبارك»، «عيش. حرية. كرامة إنسانية». وتوالت الحشود إلى الميدان من كل أطراف القاهرة، في وقت كانت فيه مسيرات السويس تردِّد: « أنا مُش جبان. أنا نازل ميت في الميدان».
الواحدة ظهراً، وصل مئات الآلاف إلى «ميدان التحرير». منشدو الهتافات السياسية والاجتماعية من المناضلين ضد التوريث قبل «25 يناير»، وصلوا الميدان على رأس مسيرات، هاتفين: «قول يا مبارك يا مفلّسنا إنت بتعمل إيه بفلوسنا»، و«ارحل، ارحل زي فاروق، شعبنا منّك بقى مخنوق».
قامت الثورة فعلاً! كانت النخبة تتوقع أن تضمّ التظاهرات ألفين أو ثلاثة آلاف، ويُقبض على بعضهم، و«كلّه يروح بيته». كان الجميع مندهشاً من ضخامة الحشد في التحرير. الساعة تقترب من الرابعة عصراً، والميدان محاصر بمئات العربات المدرّعة. الهتافات القديمة هي هي: «ارفع ارفع في الأسعار، بكره الدنيا تولّع نار»، و«يا حاكمنا بالمباحث، كلّ الشعب بظلمك حاسس»، و«يا حاكمنا من عابدين، ليلتك زفت وزيّ الطين».
دقائق هادئة. الثوار يسلمون بعضهم على بعض. أنباء عن اقتحام وشيك لقوات الأمن. كان شباب الألتراس (مشجّعو الفرق الرياضيّة)، بشماريخهم وطبلاتهم المتميزة، أول من هتفوا: «الشعب يريد إسقاط النظام». الهتاف أخّاذ، والتأثير التونسي يطرب الوجدان. تراجعت كل الهتافات، وصعد هذا الهتاف وحده. انتقل كتوابع زلزال عبر رسائل الخلوي إلى البقاع المنتفضة في السويس، والإسكندرية، والمحلة الكبرى.
من دون سقف، صاغ الشباب الغاضب هتافاته. ارتجلها، وكتبها على الأكف كي لا ينساها. معظم الهتافات الجديدة كان تطويراً لهتافات قديمة. يقول جاسر، أحد شباب الألتراس، «كنّا ندخل على الإنترنت، ونبحث عن شعارات قديمة، ونغيّر في الأسماء، ونضيف إليها توابل». شباب اليسار كان ينسج هتافاته تحت منصته الشهيرة، بجوار مسجد عمر مكرم، وهناك صكّ الهتاف الشهير: «يا شهيد نام وارتاح، وإحنا نكمل الكفاح».
مع مطلع شباط (فبراير)، تحوّل «ميدان التحرير» إلى ورشة كبيرة لآلاف الشعارت الورقية والصوتية، واللافتات، والنكات الساخرة ضد مبارك ونظامه. حتّى إنّ أطفال المدارس نسجوا شعار «الاستقلال التام أو الموت الزؤام». وحين رفض مبارك في خطابه الثالث التنحّي، توجّه الثوّار إلى قصر العروبة صارخين: «ع القصر رايحين. شهداء بالملايين».
الذكرى الأولى للثورة، موعد مناسب لتزييت ماكينات الشعارات. جهّز النشطاء بالفعل بعض الهتافات: «أنا لا يساري ولا يميني، بس العسكر طلّع ديني»، و«اضرب نار، اضرب حي، يا طنطاوي دورك جي». البرد القارس الذي يلفّ المحروسة الآن، لم يقف في وجه ثوّار التحرير. لقد ابتدعوا له هتافاً أيضاً: «ما سقعناش ما سقعناش. الحرية مُش ببلاش».