أنا يساري. أرتّب فراشي كل صباح، وأطعم القطّين الصديقين، وأعيد الأشياء إلى مكانها بعناية فائقة. أسلوب حياتي «الفردي» خلاصة تجربة، وطبيعة شخصيّة، وخيارات ذاتيّة، وهو لا يحول دون الانتماء إلى الجماعة. المصادفات التي شاءت أن أمتلك «رصيداً ثقافيّاً» حسب بيار بورديو، لا تنسيني موقعي الطبقي. الجانب «المترف» من حياتي أيضاً (كل شيء نسبي!)، لم أحصل عليه بسهولة، ويمكنني أن أضحّي به في سبيل قناعاتي. مثل جورج براسنز لا أسير في القطيع، وأتعاطف مع الخاسرين، وأتماهى مع ضحايا الظلم، وأقدّس التنوّع والاختلاف، و«أدين بدين الحبّ» على طريقة الشيخ الأكبر. أنا يساري خرجت من طائفتي ولم أعد، وقطعت مع عشيرتي لأكون مواطناً وإنساناً. وأعدت اختراع عائلتي على أسس لا علاقة لها بالعصبيّة وعلاقات الدم. أنا يساري تربطه علاقة نقديّة بالقيم السائدة، وبكل أشكال السلطة. يعتنق الفلسفة الماديّة، ويتعامل مع الأديان بكثير من الاحترام والفضول. ناموسي لا ينهل من فكر غيبي، بل يستند إلى التراث العقلاني الذي يتخذ من الإنسان مقياساً وقيمة مرجعيّة.
أنا عربي رضع من ثدي ماريان (شفيعة الثورة الفرنسيّة)، يؤمن بالحريّة والمساواة والعدالة هدفاً سامياً، وبالدولة ومؤسساتها وقوانينها الوضعيّة إطاراً يتسع للجميع، ويساوي بين الجميع.
المؤسسة العائليّة لا تتسع لسعادتي، فالطرق إلى السعادة مختلفة ومتباينة. أحبّ الريف وأهله، وأطالب بتنميته وحماية البيئة، لكنّني لا أجد نفسي إلا في المدن الكبرى، بصخبها وهديرها وتنوّعها. لا أفرّق بين امرأة محجّبة وأخرى بالميني جوب. أجمع بين الطقوس المتعويّة والصوفيّة. أؤمن بالحريّة الجنسيّة القصوى التي لا حدود لها سوى الكرامة الإنسانيّة. أكره «الشعبويّة» فهي سرير الفاشيّة. أنا علماني يحبّ حسن نصر الله، وأممي ينتمي إلى فكر المقاومة، وديموقراطي يحذر من الهدايا المسمومة التي يعدنا بها الغرب الاستعماري. أنا يساري يفضّل ياسين الحافظ على برهان غليون، وميشيل كيلو على المنصف المرزوقي، وفاروق عبد القادر على جابر عصفور، وتروتسكي على جدانوف. أنا يساري يحبّ عبّاس بيضون (عفواً يا سعدي!)وسعدي يوسف طبعاً، ونزيه أبو عفش. أصدقاؤه من المحافظين والليبراليين أيضاً. أنا تلميذ جوزف سماحة.
… لكن لا تقولوا لإبراهيم الأمين إنّي يساري، فهو يظنّني من هواة السهر في حانات الجمّيزة.