باريس | في شريطها «بوليس» الحائز جائزة لجنة التحكيم في مهرجان «كان» الأخير، تواصل الممثّلة والمخرجة الفرنسية مايوان (1976) سبر أغوار الجوانب الأكثر قتامة وإشكالية في الطبع البشري. تنطلق عروض العمل التجارية في صالة «متروبوليس أمبير صوفيل» (الأشرفية/ بيروت) في نهاية الشهر الحالي، بعدما أتيح للجمهور البيروتي مشاهدة الشريط ضمن برنامج «مهرجان السينما الأوروبيّة 18» الأخير... لكنّ عرضاً واحداً لم يكن كافياً للاطلاع على أحد أهمّ اكتشافات الفنّ السابع في عام 2011.
تنسج مايوان (ابنة الممثّلة كاترين بلخوجة) في «بوليس» بورتريهاً جماعياً لفرقة شرطة في «كتيبة حماية القاصرين» الباريسية، ضمن شريط مؤثّر أبهر الكروازيت في أيار (مايو) الماضي (الأخبار ـ 14/05/2011). تستكمل المخرجة الشابة ثلاثيةً نفسيّة مشحونة بالتوتر والقلق الوجودي، بدأتها مع «سامحوني» (2006) و«حفلة الممثلات» (2009). أفلامٌ كرّستها كأحد أبرز الوجوه النسائية في السينما الفرنسية خلال العقد الماضي. قوبلت هذه الأعمال بحفاوة نقدية لافتة، وحظيت برواج شعبي متزايد، تُوّج بمليونين ونصف مليون متفرج، شاهدوا «بوليس» منذ طرحه في الصالات الفرنسية أواخر تشرين الأول (أكتوبر) الماضي.
يندر أن يتّفق النقاد والجمهور على سينمائي أو سينمائية ناشئة في بلد «الأخوين لوميير»... فكيف إن كان الأمر متعلّقاً بمخرجة عرفت الشهرة كممثلة في الأصل؟ وهذا تحوّلٌ يقابَل بالكثير من التحفُّظ في الأوساط السينمائيّة الفرنسيّة عادةً، لكنّ مايوان مثّلت استثناءً. باكورتها «سامحوني» كانت مفاجأة الموسم عام 2006، إذ رُشّحت لجائزتَيْ «سيزار» (أفضل «عمل أوّل»، وأفضل «أمل نسائي»). ثمّ جاء عملها الثاني «حفلة الممثلات» (2009)، ليكرّس مكانتها كمخرجة واعدة تحمل بصمات أسلوبية مميزة، ورؤىً إخراجية مغايرة عن الرائج في السينما الفرنسية الراهنة. ومن ميزات شريطها الثاني، أنّه كسر الهالة المحيطة بمايوان الممثلة، من خلال تفكيك آليات الشهرة الفنية، عبر بورتريهات حميمة لـ 12 ممثلة قمنَ بأداء شخصياتهنّ الحقيقية على الشاشة، من كارين فيار إلى جان باليبار، مروراً بشارلوت رامبرلينغ وجولي دوبارديو، وصولاً إلى المخرجة نفسها. ثمّ جاء «بوليس»، ليمثّل العمل الأكثر نضجاً واكتمالاً في ثلاثية المخرجة الصاعدة. بعدما صفّت في عملها الأوّل حسابات (وعُقد) طفولتها المعذّبة في كنف والدتها الممثلة ذات الأصل الجزائري كاترين بلخوجة، وبعدما فكّكت آليات ومطبّات النجومية والشهرة في عملها الثاني، تطلّعت الأنظار إلى «بوليس» بوصفه أوّل عمل لمايوان خالٍ من السيرة... لكنّ ذلك لم يمنعها من المزاوجة فيه بين التوثيق والتخييل، كما فعلت في عملَيها السابقين. وبهدف استلهام قصة الفيلم عن عمل شرطة القاصرين، طلبت مايوان من السلطات إذناً خاصاً لمتابعة عمل فرقة حقيقية، عايشتها يومياً على مدى أشهر. ومن هذه التجربة اقتبست شخصية المصوّرة الصحافية ميليسا، التي تقمّصتها بنفسها على الشاشة، وحمّلتها الكثير من شخصيتها وتجربتها الذاتيّة. تبدو ميليسا في بداية الفيلم فنانةً فرنسيةً مثقفةً وميسورةً، قادمة من عوالم اليسار المخملي الباريسي. وشيئاً فشيئاً، تتكشّف أصولها المهاجرة الجزائرية البسيطة بعد ارتباطها بعلاقة عاطفية مع مفتش الشرطة فريد الذي أبدع نجم الراب، جوي ستار، في أداء شخصيته الإشكالية والقلقة. شخصيّةٌ تخفي وراء العنف الذكوري الظاهري، تمزّقاً نفسياً مؤثراً، ونفساً إنسانياً يبرز إلى الواجهة حين ينهار أمام فشل فرقته في الحوؤل دون فصل طفل أفريقي عن والدته التي فقدت بيتها وعملها، ووجدت نفسها مرميّة في الشارع. نكتشف أنّ فريد عاش بدوره تجربةً طفولية مماثلة.
حسّ الشريط الإنساني، جعله محطّ حفاوة نقديّة كبيرة، لكنّ نقطة القوّة الأساسيّة فيه كانت بنيته الأسلوبيّة. على صعيد الشكل، لفت الفيلم الأنظار برؤية تصويرية متوترة، تشبه التحقيق التلفزيوني من خلال استعمال الكاميرا المتحركة المحمولة على الكتف، يضاف إليها إيقاع سريع في المونتاج، ينضح بالصخب والعنف. أما على صعيد المضمون والبنية الإخراجية، فيقف الفيلم ــ ككلّ أعمال مايوان ـــ في موقع الوسط بين إرثين فنيين، يعودان إلى حقبة الستينيات: «الموجة الجديدة» الفرنسية من خلال التخلّي عن السيناريو والحبكة الحكائية التقليدية لإفساح المجال أمام التجريب والارتجال، و«الواقعية الجديدة» الإيطالية في المنحى النفسي الذي يسبر أغوار الطبع البشري، بهدف رسم بورتريهات اجتماعية تتقاطع وتتداخل، لترسم صورةً إنسانية مؤثرة، تسائل انشغالات الراهن، وتعكس سمات العصر...

‏Polisse: في صالة «متروبوليس أمبير صوفيل» (بيروت) نهاية كانون الثاني (يناير) الحالي. للاستعلام: 01/204080



أمام الكاميرا أيضاً

قبل أن تخوض تجربتها الإخراجية الأولى في الثلاثين، عرفت مايوان الشهرة كممثلة منذ كانت في الثالثة، إذ أرغمتها والدتها الممثلة كاترين بلخوجة على خوض تجربة التمثيل. وأدت أول دور بارز على الشاشة في السابعة في فيلم «الصيف القاتل» (1983) لجان بيكر، إذ جسّدت المعادل الطفولي لشخصية الفيلم المحورية إليان (إيزابيل أدجاني). في عام 1991، رُشحت لـ «سيزار» أفضل ممثلة واعدة عن دورها في «الصبية» لهيرفيه بالو. وخلال حفلة توزيع الجوائز، تعرّفت إلى المخرج لوك بوسون، وتزوّجت به في العام الموالي، وكانت لا تزال في السادسة عشرة. وبخلاف كلّ الممثلات اللواتي تزوجهنّ صاحب «جان دارك»، لم تمثّل مايوان في أفلامه إلا دورين صغيرين في «ليون» (1994) و«العنصر الخامس» (1996). بعد سبع سنوات من الإقامة في هوليوود، انفصلت عن بوسون وعادت إلى فرنسا، ومن أبرز الأعمال التي مثّلت فيها «الباريسيون» (2004) و«شجاعة الحب» (2005) لكلود لولوش.