أعادت الثورات العربية إلى الواجهة، مصطلحات ومفاهيم ظلت إلى فترة طويلة محصورة في نقاشات النخب الثقافية، مثل الدولة الوطنية، والمجتمع المدني، والحداثة. من هذا الباب، يسلِّط جاد الكريم الجباعي الضوء على هذه العناوين، مدفوعاً بما أفرزه الربيع العربي من أسئلة طارئة، يرى ضرورة الإجابة عنها، بتوضيح أصول هذه المفاهيم، وذلك في كتابه «في الدولة الوطنية الحديثة: نقد الكتابة على جلود البشر» (دار موزاييك/ دمشق). يهدي الباحث السوري كتابه «إلى شباب سوريا، وكلّ من يطلب الحرية والحياة الكريمة»، ويفتتحه بحوار بين فولتير والإمبراطورة كاترينا زوجة بطرس الأكبر، قيصر روسيا.
تقول الإمبراطورة لفيلسوف الحرية الفرنسي: «أنتم أيها الفلاسفة تكتبون على الورق، أما نحن فنكتب على جلود البشر». السلطة المطلقة كما يراها الجباعي تُكتب على جلود البشر، مهما كانت شعاراتها، وتالياً، لا بدّ من تأصيل الدولة الوطنية بوصفها نقداً نظرياً وعملياً لهذه السلطة بوجهيها الاستبدادي والديني. ويشير صاحب «المجتمع المدني هويّة الاختلاف» إلى أنّ أهمّ ما أنتجته الثورة السوريّة هو الإجماع الوطني على الدولة السورية، والمطالبة السلمية بولادتها مجدداً.
شرح المفاهيم التي يستعيدها هذا الناشط الحقوقي في متن كتابه، موجّهة إلى المبتدئين، في المقام الأول، فهو لا يثقلها بالنظريات الفلسفية المغرقة بالتفاصيل، مكتفياً بالإطار العام لها. يتساءل صاحب «حرية الآخر» أولاً، عن معنى الدولة وعلاقتها بالحداثة، فيجد أنّ هذا المفهوم غائب تاريخياً عن معناه الراهن، فالدولة في اللغة العربية تعني الاستيلاء على السلطة والثروة، وانتقالهما من يدٍ إلى يدٍ، وفق مبدأ «الغَلَبَة»، أو حقّ الأقوى. أما نظام الحكم فيعني «المُلك والخلافة والسلطان». لا ينجدنا القاموس العربي في توضيح صورة الدولة المعاصرة، باستثناء التجربة السياسية الليبرالية القصيرة بعد الاستقلال الوطني إلى عام 1958. ويتوقّف الجباعي عند ثلاث واقعات كونية، أفرزت صورة الدولة الحديثة، هي الثورة الصناعية، ونشوء نمط الإنتاج الرأسمالي، والثورة الديموقراطية، ما أدّى إلى ظهور المجتمع المدني، وهو ما يضع حداً لأي «سجال أيديولوجي حول الدولة الإسلامية، أو الدولة الاشتراكية، أو الدولة القومية». وبناءً على هذه التحولات، فإنّ أيّ جماعة أو أمة تضع نفسها خارج هذا المنجز الكوني، «تحكم على نفسها بالعقم والبوار». ويفصّل صاحب «قضايا النهضة» بين المجتمع الأهلي، والمجتمع المدني. ذلك أنّ الأول يكتفي بتراصف جماعات إثنية وعشائرية ومذهبية ما قبل مدنية، «تتعايش على مضض، وتعشّش الهمجية في ثنايا ثقافتها المبنية على كراهية الآخر». فيما يطيح المجتمع المدني الهويّات الضيّقة وتمثلاتها الإثنية، لمصلحة المنفعة العامة عبر الانخراط في النوادي والجمعيات والمنظمات غير الحكومية، إلى إعلاء شأن المواطنة في مجتمع تواصلي مفتوح. ويعرّج الكتاب على مفاهيم أخرى بقصد تعزيزها مثل «دولة المؤسسات»، و«المواطنة»، و«سيادة الشعب»، و«الرأي العام». قد تبدو هذه المفاهيم متداولة ومعروفة، لكن الجباعي يراها عتبة أساسية لتأصيل ثقافة سياسية، أحوج ما نكون إليها في هذه اللحظة العاصفة. فما نراه اليوم، من تكتلات عصبية، وعشائرية وطائفية، يثبت مرةً أخرى، أنّ المجتمع العربي يعيش مأزقاً فكرياً وحيرةً وجودية، بين معنى الدولة، ومعنى الأمة. ويؤكد أنّه «لا أمل في بناء دولة وطنية حديثة بنظام ديموقراطي إلا بتفنيد الوعي الماضوي، والانعتاق من ربقة العلاقات الإثنية والعشائرية والمذهبية، وإنجاز قطيعة معرفية وفكرية وسياسية مع الاستبداد وما يساعد على إعادة إنتاجه»، من دون أن يهمل نقد الأحزاب الأيديولوجية، ودحض الوعي الزائف الذي أنتجته، وعملت على ترسيخه في العقود الماضية. قطيعة حسب ما يقول، باتت ممكنة مع بزوغ الربيع العربي، وتصميم جيل شاب على تحقيق نظام ديموقراطي، «تلوح تباشيره في الأفق»، يصون الحرية والكرامة وسيادة الشعب، لافتاً إلى أنّ «هذه القطيعة سينجزها الشباب عملياً قبل أن تنجزها النخبة نظرياً».
هذا التجوال بين المصطلحات والمفاهيم السياسية، ينتهي إلى فكرة جوهرية تتعلق بدور مؤسسات المجتمع المدني في مواجهة الدولة السياسية، كي لا تنزلق الأكثرية إلى الطغيان، وهو ما سيفضي «إما إلى الاستبداد وإما إلى الفوضى، إذا لم تكن هناك قوة تعادله وتجعله معتدلاً».