في وسط دوار اللؤلؤة، ميدان الثورة البحرينية وأكثر فضاءاتها اتساعاً وتنوعاً، أراد علي أحمد الديري (1971) توقيع كتابه «خارج الطائفة» (دار مدارك/ 2011). جمع ذلك الفضاء يوماً البحرينيين بمختلف شرائحهم، مقترحاً حالةً وطنيّة تجاوزت بحدودها مطلب إسقاط النظام الذي تردَّد خلال العام المنصرم من تونس على البحر المتوسط إلى المنامة في خليج العرب. تحوّل الدوّار إلى أفقٍ رحب، يخرج فيه الناس عن انتماءاتهم الضيقة.
حالة رمزية أغرت الكاتب البحريني الشاب، فقرّر أن يطلق كتابه في إطارها.
يسأل الديري في كتابه ـــــ كما يدلّ العنوان ـــــ عن سبل الخروج عن طائفته، والدخول في مختبر الدوار بحثاً عن الدولة. يذهب في بحثه أعمق، متلمساً الطريق صوب مجتمع حرّ، تتكوّن فيه الذات بعيداً عن اشتراطات الدين والقبيلة. بعد الحركة الاحتجاجيّة التي شهدتها البحرين خلال العام الماضي، سارع النظام في المملكة (بمساعدة جاره السعودي) إلى جرف معالم الدوار، واستهداف حالة التظاهر السلمية اعتقالاً، وتنكيلاً، وقتلاً. حركة أجهضت محاولة وطنية جادة، لخلق فضاء انصهاري حرّ كان يمكن الدوار أن يكوّنه، لو قيّض له البقاء.
في «خارج الطائفة»، يروي الديري تجربته الخاصّة، وتحوّلاته الذهنيّة، في سياق اجتماعي وإيديولوجي وسياسي عام... يتوزّع الكتاب على أربعة فصول، تبدأ مع «خارج الطائفة»، يليها «إلى داخل المدينة»، و«منها إلى داخل أكثر تعقيداً، هو الدولة»، ثم «داخل الإنسان الذي يشكّل المجتمع».
يصف الديري كتابه بأنّه «سيرة ذاتية في تشكيلي، في صراعاتي الذهنية، في خروجاتي من الطائفة. الطائفة كتكوين ذهني... كيف تكوّن الفرد ليكون مؤمناً بقيم معينة، وعقائد معينة، وأفكار معينة، وكيف يمكن أن يكون الإنسان ذاتاً حرة مستقلة حين يخرج من مسلّمات الطائفة. تستطيع أن تكون جزءاً من مدينة وجزءاً من دولة». وانطلاقاً من هذا التوصيف، يركّز على مفهوم الخروج إلى فضاء الدولة، بمعناها الحديث كحاضنة لكلّ التشكيلات الموجودة، وكلّ الذوات الموجودة. جانبٌ آخر من طرح الديري، مخصَّصٌ للتأمّل في المجتمع البحريني، وخطاباته السياسية والدينية، المنطلقة من الطائفة وأطرها، مع أمثلة مستقاة من خطابات لرجال دين شيعة.
صاحب «طوق الخطاب» (2007)، كان ينوي توقيع عمله الأخير في الدوار، في تعبير رمزي عن توقه إلى الدولة المدنية التي نادت بها شعارات من تظاهروا في دوّار اللؤلؤة. «التوقيع في الدوار لكي أعطي هذه الدلالة الرمزية، حركة الدوار حركة خارج الطائفة وبالتالي جاء كتابي حاملاً هذا العنوان الصادم لكثيرين، كان على دوار اللؤلؤة أن يتّسع للخارجين على طوائفهم، وليس مكاناً للداخلين في طوائفهم». لكنّ الدوّار صار كلّه خارج الجغرافيا، بعدما جرفته دبابات «درع الخليج» فارتد الناس إلى طوائفهم، ليجدوا فيها الملاذ واليقين: «صرنا خارج الدوار داخل الطائفة، بعد أن كنا داخل الدوار خارج الطائفة» .
في كتاب الديري، تظهر البحرين دولةً غير منجزة، لم تستطع أن تحقق شيئاً من مفاهيم الحداثة. البحرين هنا قبيلة، وليست دولة، إقطاعيّة، وليست وطناً، من يحكمها ليس عائلة مالكة، بل قبيلة مالكة لم تفهم معنى الدولة أو «جسد الدولة» كما يعرّفه ابن خلدون. إنّها قبيلة تحتوي على ما يكفي من البداوة والضعف والانعزال عن محيطها المحلي، لجعلها بعيدة بأشواط عن أي مشروع حقيقي للتطوير؛ إذ إنّها تحدد خريطتها السياسيّة، ومفهومها للوطن، انطلاقاً من مصالحها القبلية والاقطاعية ومصالح حلفائها. مفاهيم المواطنية ذاتها، ما زالت تتحدد بحسب الانتماء القبلي، ما أدّى إلى تهميش عدد كبير من البحرينيين، وممارسة عنصرية طائفية بحقّهم، ما زالوا يثورون ضدها منذ سبعينيات القرن الماضي حتى اليوم.
ضمّن الديري كتابه أسئلة عن الدولة والدين والعلمانية والمجتمع، ترافقها وصفة لما يمكنه أن يخرج الأفراد من قبائلهم وطوائفهم. نشأ الكاتب نفسه في مجتمع وبيئة متدينين، حيث كان الانتماء إلى الطائفة مكوّناً رئيسياً للذات والهويّة. لكنّه استطاع الخروج عن هذه التربية الطائفية برموزها وكتبها، من خلال علاقته بعلي شريعتي، إحدى الشخصيات المهمة في الفكر الشيعي، كما يقول في فصل «خارج علي شريعتي»، حيث ينتقد المفكر الإيراني، قائلاً إنّه لم يغادر الإيديولوجيا الدينيّة رغم ثوريّته.
يعرّج الديري على فهمه للعلمانيّة بوصفها محاولة ملحة من الإنسان ليعيش الحياة الدنيا في عقله، أو بالخروج من قصور عقله، بمعنى أنّه لن ينظر إلى عقله ككائن قاصر يحتاج إلى نص ديني يكمِّله. لهذا يطالب بإسقاط شعار، «معكم معكم يا علماء» الذي بدأت قدسيته تهتزّ داخل المجتمع البحريني الغارق في البطالة ومشاكل الإسكان بين 2002 و2006. وفي هذا السياق، ينادي بتحرير المجتمع من الدين من منطلق الإطلاح الديني، لا من منطلق القطيعة المطلقة مع الدين. فـ«العلمنة ليست موقفاً مضاداً للدين» يكتب.
تغيب ثورة البحرين التي انطلقت في 14 شباط (فبراير) الماضي عن الكتاب مباشرة، لكنّ كل أسئلة تلك الثورة الملحّة تحضر بتفاصيلها: لماذا لا تزال البحرين في طور الـ«لا دولة» أو الدولة غير المنجزة؟ ما المطلوب من الدولة التي لم تقف على الحياد وتنفصل عن الدين والطائفة حتى الآن؟ وما الذي ينقص مفهوم الدولة ليكتمل؟ وما السبيل الأفضل لمناقشة الأحداث السياسية التي تدور في المملكة.
استقى علي الديري معظم مراجعه من علوم الإنسان الحديثة، ومفاهيم تحليل الخطاب الحديث، والفلسفة التفكيكية. تخصصه في الفلسفة، وعلوم اللغة الحديثة (تحليل الخطاب)، ساعده في تفكيك خطابات رجال الدين، واستخدام مفاهيم وأدوات نقدية حديثة لفهم مراميها.
الانطلاق من تجارب شخصية في قراءة العام، يعطي تجربة الديري زخماً، هو المرتحل بين بيروت والقاهرة، هرباً من قمع النظام البحريني. هذه التجارب المكثّفة، أكسبت الكتاب صدقيّة، يريد المؤلّف من خلالها التحذير من مخاطر الحروب الطائفية والقومية التي تشتعل في المنطقة العربية، بتحريض من أنظمة باتت تخاف الربيع الذي يولد حولها. ويبقى الهدف الأساسي من الكتاب هو التحريض باتجاه تكوين مجتمعات تخلق وتصدّر الإصلاح والاختلاف والتعدد والمشاركة، لتحقيق الحلم بدولة ينادي بها الديري... «خارج الطائفة».